الحمد لله.
من آمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، والتزم أحكام الإسلام، وانقاد لله بالطاعة، ولم يقع في شيء من الكفر أو الشرك، فهو مؤمن ناج، ولا يضره جهله ببعض الأعمال الكفرية أو الشركية، أو جهله بكون ما يؤمن به قطعيا يكفر منكره، فليس من شروط صحة الإيمان معرفة الكفر على وجه التفصيل، وما دام قد عافاه الله منه، فهو مؤمن موحد، بل لو وقع في شيء من ذلك جهلا منه: فالصواب أنه لا يكفر بذلك، وإنما يعذر بجهله، كما سبق بيانه في أجوبة كثيرة في الموقع. والخلاف في المسألة معروف بين أهل العلم.
ويدل على صحة ما قدمنا ما وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم مما ينافي التوحيد، جهلا منهم بذلك، كما روى الترمذي (2180) وأحمد (21897) عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ؛ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وصححه الألباني وشعيب الأرنؤوط.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في فوائد هذه القصة:
"الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل...
التاسعة: أن نفي هذا من معنى لا إله إلا الله، مع دقته وخفائه على أولئك" انتهى من كتاب التوحيد.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه: "التاسعة: أن نفي هذا من معنى: لا إله إلا الله، مع دقته وخفائه على أولئك: أي: أن نفي التبرك بالأشجار ونحوها، من معنى لا إله إلا الله، فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله، وتنفي الألوهية عما سوى الله- عز وجل-، فكذلك البركة لا تكون من غير الله- سبحانه وتعالى-" انتهى من القول المفيد شرح كتاب التوحيد (1/ 205).
ونظير هذا من صلى وأتى بالأركان والواجبات، ولم يقع في مبطل، صحت صلاته وإن جهل الركن من الواجب، أو لم يعلم المبطل.
قال في المبدع (1/ 445): " من صلى يعتقد الصلاة فريضة، فأتى بأفعال تصح معها الصلاة، بعضها فرض، وبعضها نفل، وهو يجهل الفرض من السنة، أو يعتقد الجميع فرضا: صحت صلاته إجماعا" انتهى.
وقال في كشاف القناع (1/ 393): "(وإن اعتقد المصلي الفرض سنة، أو عكسه)، بأن اعتقد السنة فرضا، (أو لم يعتقد شيئا) ، لا فرضا ولا سنة، (وأداها على ذلك) الوجه السابق المشتمل على الشروط والأركان والواجبات، (وهو يعلم أن ذلك كله من الصلاة، ولم يعرف الشرط من الركن: فصلاته صحيحة) . قال أبو الخطاب: لا يضره أن لا يعرف الركن من الشرط، والفرض من السنة. وردّ المجد على من لم يصحح الائتمام بمن يعتقد أن الفاتحة نفل : بفعل الصحابة فمن بعدهم، مع شدة اختلافهم فيما هو الفرض والسنة . ولأن اعتقاد الفرضية والنفلية مؤثر في جملة الصلاة، لا تفاصيلها؛ لأن من صلى يعتقد الصلاة فريضة ، يأتي بأفعال تصح معها، بعضها فرض وبعضها نفل ، وهو يجهل الفرض من السنة، أو يعتقد الجميع فرضا : صحت صلاته، إجماعا. قاله في المبدع" انتهى.
فكذلك الأمر هنا، من أتى بالإيمان، ولم يقع في ناقض، فإيمانه صحيح، ولا يضره عدم تمييزه بين الركن والواجب والقطعي والظني.
والله أعلم.
تعليق