الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

ما توجيه حديث (إِنّ الرجل ليصلي ستين سنة، لا يقبل الله له صلاة...)؟

401955

تاريخ النشر : 27-04-2023

المشاهدات : 36182

السؤال

أنا ـ الحمد الله تعالى ـ مصلٍّ، واجيد القراءة والكتابة، ولكن لم يحالفني الحظ أن أكون من حفظة القرآن الكريم، لكني ـ الحمد الله ـ أحافظ علي ورد يومي، بجانب أنني أسعى لمعرفة الأحاديث، والمزيد عن الدين، والحلال والحرام، ومع قراءتي للحديث الشريف: (أن الرجل ليُصلي ستين سنة، وما تُقبَل له صلاة؛ لعله يتم الركوع، ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع) شعرت ببعض الضيق؛ لأني أجتهد، وأخلص النية في العبادة، ولكن ماذا لو فعلت شيئا عن جهالة، أو لعلة جسدية، مثلا: حيث إنني أعاني من الجلوس على الأرض، فأستطيع أن أجلس في الجلسة التي بين السجود، ولكن ليس مثل جلسة السنة التي أشاهدها في بعض وسائل التواصل، فهل تنقص صلاتي حتي لو لعلة جسدية أو بجهالة؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

هذا الحديث الذي أشرت إليه ورد مرفوعا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وموقوفا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه.

فالمرفوع رواه ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (10/661)، قال: حَدثنا يحيى بن مُحمد بن يحيى ابن أخي حرملة، حَدثنا مُحمد بن أبي السري، حَدثنا عبدة بن سليمان، حَدثنا مُحمد بن عَمرو بن علقمة، عن أبي سلمة بن عَبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم: (إِنّ الرجل ليصلي ستين سنة، لا يقبل الله له صلاة، لعله يتم الركوع، ولا يتم السجود).

لكن ابن عدي ضعفه لأجل شيخه يحيى، حيث قال رحمه الله تعالى:

" وهذا الحديث بهذا الإسناد والمتن غير محفوظ.، وليحيى بن مُحمد بن يحيى هذا، عن عَمِّه حرملة وغيره من المناكير ما ليس هو بمحفوظ غير ما ذكرت، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق " انتهى.

لكن رواه قوام السنة في "الترغيب والترهيب" (2/426)، من غير رواية يحيى هذا، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد المصري، أنبأنا أبو بكر بن أبي نصر في كتابه، أنبأنا أبو محمد بن حيان، قال: حدثني أبو علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبو الشعثاء، حدثنا عبدة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليصلي ستين سنةً وما تقبل له صلاة ولعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع).

ورجال إسناده مشهورون بالصدق والعدالة:

فمحمد بن عبد الواحد المصري، قال عنه الذهبي رحمه الله تعالى:

" الشيخ، المحدث، المعمر، مسند وقته أبو مطيع محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز الضبي ... الملقب: بالمصري...

قال السمعاني: كان صالحا معمرا أديبا فاضلا " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (19/ 176 – 177).

وأبو بكر بن أبي نصر هو من مشاهير شيوخ الحاكم النيسابوري وقد عدّله وزكاه، حيث قال رحمه الله تعالى:

" وأما شيخنا أبو بكر بن أبي نصر، فإني رحلت إلى مرو، وأول ما دخلتها سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وليس بها من يقدم عليه في الصدق والعدالة، وكان من مزكيها " انتهى. "سؤالات السجزي للحاكم" (ص241–242).

وأما أبو محمد بن حيان: فهو أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ صاحب التصانيف.

وأبو علي بن إبراهيم شيخ أبي الشيخ، فقد ترجم له في "طبقات المحدثين بأصبهان" (4/277) ووثقه، حيث قال:

" أبو علي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن زياد الصحاف.

شيخ كثير الحديث عن العراقيين والأصبهانيين.

ثقة، مات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة " انتهى.

وقد حسنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/81)، فقال:

" قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، على ضعف يسير في محمد بن عمرو، والمعتمد فيه أنه حسن الحديث. وعبدة هو ابن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي، وهو من رجال الشيخين. وأبو الشعثاء اسمه علي بن الحسن بن سليمان الحضرمي، وهو ثقة من شيوخ مسلم " انتهى. "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/81).

لكن رواه هشام بن عمار في "حديثه" (2/376)، قال: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ مَشْيَخَتِهِمْ قَالُوا: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لِيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً، مَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَلَاةً، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ، وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ).

فجعله من قول أبي هريرة رضي الله عنه.

وكذا رواه ابن أبي شيبة فخالف أبا الشعثاء، فرواه موقوفا من كلام أبي هريرة، فرواه في "المصنف" (3/134)، قال: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً مَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ).

وحسن إسناده محقق الكتاب .

ومحمد بن عمرو بن علقمة وإن تكلم فيه من حيث حفظه، إلا أنه ليس بالمتروك الحديث، بل هو صدوق حسن الحديث، لكن قد تقع له أوهام كرفع ما هو موقوف.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

" محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص المدني مشهور، حسن الحديث، أخرج له البخاري ومسلم متابعة، قال يحيى: ما زالوا يتقون حديثه. وقال مرة: ثقة. وقال الجوزجاني وغيره: ليس بقوي " انتهى. "المغني" (2/621).

وقال في "الكاشف" (2/207):

" محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبيه وأبي سلمة، وعنه شعبة، ومالك، ومحمد الأنصاري، قال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال النسائي وغيره: ليس به بأس " انتهى.

وإلى نحو قول الذهبي والنسائي مال ابن عدي رحمه الله تعالى، فقال:

" ولمحمد بن عمرو بن علقمة حديث صالح، وقد حدث عنه جماعة من الثقات كل واحد منهم ينفرد عنه بنسخة، ويغرب بعضهم على بعض، وروى عنه مالك غير حديث في "الموطإ" وغيره، وأرجو أنه لا بأس به" انتهى من "الكامل" (9/288).

وبناء على ذلك؛ فالذي يظهر أن الاختلاف على محمد بن عمرو في رفعه ووقفه: اضطراب يمنع الحكم بصحة الوجه المرفوع منه، والظاهر أنه من محمد بن عمرو فحدث به مرة موقوفا ومرة مرفوعا.

جاء في "سؤالات المروذي وغيره للإمام أحمد" (ص116، 229):

" - وقال المروذي -: سألته – أي الإمام أحمد - عن محمد بن عمرو، فقال: قد روى عنه يحيى، وربما رفع أحاديث يوقفها غيره، وهذا من قِبَله..

- وقال الميموني -: سألته – الإمام أحمد - عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، فقال لي: ربما رفع بعض الحديث، وربما قصّر به، وهو يُحتمَل " انتهى.

لكن أقل ما في هذا الخبر أن يكون من كلام أبي هريرة، كما روي عنه موقوفا. ولا يحكم له بالرفع؛ لأن هذا قد يكون تأويلا تأوله أبو هريرة، واجتهادا منه. 

ويشبه أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه، قد استنبط ذلك من حديثه الذي رواه البخاري (757) ومسلم (397) عن أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ وَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا).

وقد بوّب عليه البخاري: " بَابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالإِعَادَةِ ".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" قال الزين بن المنير: هذه من التراجم الخفية، وذلك أن الخبر لم يقع فيه بيان ما نقصه المصلي المذكور، لكنه صلى الله عليه وسلم لما قال له: ( ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ) إلى آخر ما ذكر له من الأركان اقتضى ذلك تساويها في الحكم لتناول الأمر كل فرد منها، فكل من لم يتم ركوعه أو سجوده أو غير ذلك مما ذكر مأمور بالإعادة.

قلت: ووقع في حديث رفاعة بن رافع عند بن أبي شيبة في هذه القصة: (دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً لَا يُتِمُّ رُكُوعًا وَلَا سُجُودًا )، فالظاهر أن المصنف أشار بالترجمة إلى ذلك " انتهى من "فتح الباري" (2/277).

فإذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل بأنه لم يصل، فلا شك أن من يصلي كصلاته، مخلا بواجباتها تفريطا وتساهلا، وليس بسبب العذر؛ فإن صلاته لا تقبل، لغياب تقوى الله تعالى وتعمد مخالفة أمره، والله تعالى نص على أن الذين يتقبل منهم أعمالهم هم المتقون فيها.

قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة/27.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" ومعنى قوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي: ممن اتقى الله في فعله ذلك " انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/85).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" والناس لهم في هذه الآية، وهي قوله تعالى: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) ثلاثة أقوال: طرفان ووسط. فالخوارج والمعتزلة يقولون: لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر. وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال. والمرجئة يقولون: من اتقى الشرك.

والسلف والأئمة يقولون: لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله كما أمر به خالصا لوجه الله تعالى.

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ). قال: أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه، ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه، وإن تقبل منه عملا آخر.

وإذا كان الله إنما يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به، ففي السنن عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى قال: إلا عشرها ).

وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.

وفي الحديث: ( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ). وكذلك الحج والجهاد وغيرهما " انتهى من "منهاج السنة" (6/ 216–217).

وقد روي عن حذيفة رضي الله عنه نحو مما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فروى البخاري (791) عن زَيْد بْن وَهْبٍ، قَالَ: " رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا".

ورواه الإمام أحمد في "المسند" (38 / 294)، والنسائي (1312) بسند صحيح، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: " دَخَلَ حُذَيْفَةُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي مِمَّا يَلِي أَبْوَابَ كِنْدَةَ فَجَعَلَ لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مُنْذُ كَمْ هَذِهِ صَلَاتُكَ؟ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ مُتَّ وَهَذِهِ صَلَاتُكَ لَمُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَلِّمُهُ، فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُخِفُّ فِي صَلَاتِهِ، وَإِنَّهُ لَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ".

وقال محققو المسند عن إسناد الإمام أحمد: "إسناده على شرط الشيخين" انتهى.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" قوله: ( ما صليت )، هو نظير قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (فإنك لم تصل) " انتهى من "فتح الباري" (2/275).

لكن ذكر العدد "الأربعين" فيه نظر، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وفي حمله على ظاهره نظر، وأظن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يذكر ذلك، وذلك لأن حذيفة مات سنة ست وثلاثين، فعلى هذا يكون ابتداء صلاة المذكور قبل الهجرة بأربع سنين أو أكثر، ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد، فلعله أطلق وأراد المبالغة... " انتهى. "فتح الباري" (2 / 275).

ثانيا:

المتقرر في الشرع، أن عدم القبول للعمل وفوات أجره أو حصول العقوبة، إنما يكون سببه التفريط والإهمال، فالصلاة إنما لا تقبل ممن فرّط وتعمد تضييع بعض واجباتها أو شروطها.

قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) الماعون/5.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ) أي: الملتزمون لإقامة الصلاة، ولكنهم ( عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ) أي: مضيعون لها، تاركون لوقتها، مفوتون لأركانها، وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة، التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات، والسهو عن الصلاة، هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم، وأما السهو في الصلاة، فهذا يقع من كل أحد، حتى من النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 935).

وكذا الإخلال بالصلاة بسبب الجهل إنما يلام عليه العبد إذا كان الجهل بسبب التفريط والإهمال.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" المتمكن من السؤال وطلب الهداية، ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات " انتهى من "الطرق الحكمية" (1/465).

وأما المجتهد في إقامة الصلاة على وجهها، لكن يفوته بعض أعمالها بسبب العذر المقبول ، إما بسبب جهل يعذر به، لعدم وجود من يعلمه مع البحث، أو بسبب العجز عنها، فهذا قد بيّن الشرع أن صاحبه محمود على ما يقوم به من الصالحات، ومعذور فيما عجز عنه.

قال الله تعالى:

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة/286.

قال الشيخ محمد الامين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا؟

وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الآية، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله: ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك...

وقد ثبت في "صحيح مسلم": ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، قال الله تعالى: نعم ). " انتهى من "أضواء البيان" (1/312).

وقال الله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن/16.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيئ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

قال عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله تعالى:

" قاعدة: وهي أن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه، وعجز عن بعضه؛ فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه ..." انتهى من "قواعد الأحكام" (2/7).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها...

وهذه قاعدة كبيرة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/634).

فالحاصل؛ أن المصلي إذا أخل ببعض أعمال الصلاة، فإنه يلام إذا تعمد ذلك ، وتكاسل عنها مع علمه وقدرته.

وكذلك يلام إذا فرط في تعلم ما يلزمه من علم الصلاة وأحكامها، وآدابها.

أما من عجز عن بعض أعمال الصلاة مع عزمه على فعلها لو قدر، أو كان من شأنه العمل بما يعلم من السنة والهدي: فهذا يرجى له الأجر لنيته وعزمه وإرادته على إقامة الصلاة على وجهها الكامل.

ومن هذا العجز عن الجلوس في الصلاة على الهيئة الواردة في السنة، فالعاجز معذور، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (104434).

ثم الأمر في تلك هيئات الجلوس واسع، ليس هو بالذي يشدد فيه ، أو تبطل لأجله الصلاة ، أو يذم الرجل لأجل إخلاله بالهيئة المسنونة في مثل ذلك.

والنصيحة لك يا أمة الله أن تقبلي على ربك، بحسن ظن، ورجاء فيما عنده، ولا تكثري الوساوس التي تثبطك، وتقعدك، وتثقل عليك أمر عبادة ربك، وربما أوقعتك في القنوط، وترك الطاعات، والإقبال على رب العالمين، فاحذري ذلك كل الحذر، فإنه باب يضل به الشيطان ضعفاء العقول، ومن لا فقه له في دينه.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب