الحمد لله.
أيها السائلُ المكرمُ، طالبَ الهدى والنور؛ وعليك السلام ..
لقد سرنا ما أنت فيه من طلب الهداية، وأطمعنا حالُك أن يختم الله لك بما طلبت من الهدى ودين الحق، ويشرح صدرك لدين الإسلام ...
وسوف يكون جوابنا عن رسالتك في هذه النقاط:
أولًا:
لقد عبرت واديًا صعبًا، ومؤلمًا، وقاسيًا بحقٍّ، يا عبد الله!!
إن امتلاك الجرأة على مراجعة الدين الذي نشأت عليه: ليس هينًا بالمرة، وإن امتلاك العقل الناقد الذي يُمحص جوانب التناقض فلا يخدع نفسه، ولا يخضع لتحيزاته السابقة: هذا أيضًا عمل لا يُستهان به.
لقد كانت أكبر عقبة يضعها الشيطان لتحجب عن الناس أنوار الهداية: أن يبقوا متمسكين بدين آبائهم، وتقاليد السابقين، من غير دليل على صحة ما هم عليه، ولا برهان على حقيقته.
قال الله تعالى: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الزخرف/21-25
ولعلك أن تطالع قصة ذلك الإنسان العظيم، سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي ترك ما كان عليه من دين الآباء والأجداد، وذلك يتنقل بين الأديان، حتى هداه الله إلى دين الإسلام. وقد ذكرنا نصها في جواب السؤال رقم: (88651).
ثانيا:
ما طرأ عليك في رحلتك الشاقة، من الانتقال إلى الإلحاد، مع ما يصاحبه من فقدان لـ"المعنى": لا شك أنه كان تجربة مؤلمة ... مظلمة.
والواقع أن بعض من تحدث لهم هذه النقلة، يعودون بعد ذلك لدينهم السابق، مع بصيرتهم بما فيه من التناقضات؛ لأن احتياجهم للشعور بالمعنى، وتألمهم من عبثية الإلحاد: يجعلهم يتغاضَون عن الذي وصلوا إليه من خلل هذا الدين؛ إنهم يختارون أقل الشرين، ويرضون بأدنى السوأتين!!
لكنك، ومرة أخرى: امتلكت الشجاعة الكافية لتبحث عن الحق الذي يجمع لك بين الشعور بالمعنى، والنجاة من عَبثَية الإلحاد، وخُواء أسسه القيمية، وبين صحة الدين، وسلامة أسسه العقلية، والمنطقية؛ لتهديك بصيرتُك إلى دين الإسلام، ومعالم الحق والنور فيه.
وحقيقة؛ نحن لا نملك إلا التعبير عن إعجابنا بجولات الشجاعة المتتالية هذه، رغم ما يصاحبها من ألم، ويحيط بها من مشقة، ودائمًا ما تكون رحلة البحث عن الحقيقة مؤلمة، ويغادر فيها الإنسان منطقة راحته، طمعًا في محطة وصول يجد فيها اتساقًا أكثر، وسكينة أعظم، وقدرة أكبر على التعامل مع الحياة بمصاعبها؛ لأنه ، مع الدين الحق: صار يملك أجوبة يطمئن عقله لصحتها، ويرتاح قلبه لصفائها، وتسكن روحه للمعنى الذي يجده فيها.
ثالثا:
لحظة المقاومة العاطفية التي تعيشها الآن، هي في الحقيقة جزء طبيعي جدًا من رحلتك، إن الإنسان يملك منطقًا مجردًا عن العاطفة، وعاطفة مجردة عن المنطق، وهذان الجناحين للنفس الإنسانية: يُضران بالإنسان، إن أراد أن يخوض رحلة الحياة بجناح واحد منهما؛ فلا بد له من الجناحين، معا، ليكمل رحلته في اتزان، آمن.
أما العقل الرشيد؛ فهو العقل الممزوج بالعاطفة، العقل الذي يمزج بين المنطق والمشاعر، لا يجعل العقل وحده قائدًا له، مهدرًا وجدانه وروحه ومشاعره، ولا يجعل العاطفة وحدها تملك زمام قراراته، وتحجزه عن الحق والخير الذي أضاء له عقله، واستنارت له روحه، وإنما يؤسس الإنسان الرشيد مواقفه وقراراته على الأسس العقلانية، ثم يفرز مشاعره وعواطفه؛ ليعلم ما الذي يصلح منها لمصاحبة العقل ودعمه، موفرًا للعقلانية إطار الرشد والحكمة، وما الذي يعد منها: عاطفةَ هوىً، معوقة للعقل السليم عن أن يقوم بدوره.
من أي النوعين عاطفتك التي تجعلك مترددًا في الإسلام الآن؟
هل هي من النوع الذي يعطي العقل إطار الحكمة والرشد، أمْ هي من النوع الذي يعوق العقل عن القيام بدوره؟
لقد أجبت بنفسك هذا السؤال حين قلت في سؤالك: " يأتيني صوت يقول لي لا تترك دين آبائك ".
ثم، لقد أحسنت مرة أخرى .. وأصبت، حين وصفت هذا الصوت، الخافت، الماكر، المخادع؛ بأنه: "وساوس" ..
إنها وساوس "الشيطان" يصد بها أولياءه .. ومن "يُنصتون" إليه، و"ينصاعون" لقيادته؛ ليصدهم عن الهدى والنور الجديد:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ لقمان/21.
انظر .. كيف وصف الله ذلك "الصوت" الذي "يملي" عليك جوابه الرافض لدعوة الأنبياء، والتمسك بما عليه "الآباء"؛ وكيف دلك على مصدره؟
إنه الشيطان الذي يدعوك إلى عذاب السعير؟!
أيها "الباحث" عن "الهدى والحق"، "الطالب" لنجاة نفسه؛
دينُ آبائك قد أبصرتَ بطلانه، ولم يخض واحد من آبائك تلك الرحلة العظيمة التي خضتها ...
فمن حقك، بل من الواجب عليك: إذا هتف بك هذا الصوت السلبي، يقول: "لا تترك دين آبائك" ؛ أن تقول له:
"بل أترك ما لا يصح في عقلي، ولا يطمئن له قلبي، ولا تجد روحي فيه المعنى، ولا أبصر فيه معالم الغاية والمصير".
قال الله تعالى، مدللا على بطلان ذلك "النداءِ الدوغمائي":
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ المائدة/104.
لا بد أن تكسر الصوت السلبي بصوت الحكمة والرشد هذا، لأنك قد عانيت كثيرًا حتى وصلت إلى هذه النقطة التي غادرت فيها دينًا غير مستقيم الأسس، وإلحادًا مظلمًا خاويًا، فلا تدع هذه الوساوس ترجع بك إلى الخلف، بعد أن وصلت إلى المحطة التي سبقك إليها الرجال العظام الذين اهتدوا من قبلك.
وانظر ... إلى ذلك النظم البديع في كلام رب العالمين؛ كيف دلك في الآية التالية لتلك التي قرأناها عليك آنفا .. مباشرة؛ على طريق النجاة من ذلك "الصوت اللعين" .. قال الله تعالى:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ لقمان/22.
إن نجاتك في أن "تعصي" هذا الصوت اللعين .. والنداء الخبيث الضال، المضل...
أن تفر منه .. إلى رب العالمين .. فتعتصم بـ"العروة الوثقى"؛ وهي: لا إله إلا الله؛ محمد رسول الله.
أن تلجأ إلى الله، وتعتصم به من ذلك : "الوسواس الخناس" ...
وإلى ذلك تدلك آخر سورة في "القرآن الكريم":
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ سورة الناس.
وبهذا المنطق المتعقل الراشد، عالج أبو الأنبياء، إبراهيم عليه السلام، رفض قومه لدعوته إلى ترك ما هم فيه من الباطل، فاقد المعنى، منعدم الدلالة على "صوابه" و"صدقه" ... سوى التقليد الفاسد للآباء:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشعراء/69-82
إن العواطف المعوقة تنبع من منطقة الراحة، تنبع مما اعتاده الإنسان وألفه، فهو يخشى أن يتركه، رغم أنه رأى بطلانه بشواهد العقل السليم.
العواطف المعوقة يجد الإنسان في زاوية البصيرة داخل نفسه: أنها عاطفة لا تهديه، ولا تنبع من رشد يجد نوره في نفسه.
هذه العاطفة، تظل تتضخم في نفس صاحبها، متى خضع لها، وانصاع إلى ما تمليه من "فوران"، و"صخب" .. حتى تصير إلها من دون الله !! نعم؛ إنها في نفس أتباعها، الخاضعين لسطوتها: إله، يطعيونه؛ ويدعون هدى الله؛ وتلك كانت مأساة الأمم المكذبة لرسلها !! فبعد ما قص الله تعالى طائفة من أنباء الرسل مع الأمم المكذبين، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم، يسليه عما يصيبه، ويستثير العجب من حالهم:
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا سورة الفرقان/41-44
ثم لفت أنظار العباد إلى طائفة من دلائل قدرة الله في كونه، ووحدانيته في ألوهيته، وربوبيته، سبحانه؛ فلعلك أن تطالع هذه الآيات جميعا، وتقرأ ما بعدها .. وتتأملها ببصرك، وبصيرتك!!
هل تريد مثالًا للعاطفة المعينة على الرشد والحكمة؟
إنها تلك العاطفة التي جعلتك تشعر بالخواء والعدمية والعبث في الإلحاد، إنها صوت الرشد الذي ناداك: ليس الطريق هنا، ليس الطريق مظلمًا هكذا .. ليس له أسس قيمية وأخلاقية يهتدي بها الإنسان، ليس الطريق في فقدان المعنى، والغاية.
إن نجاتك في أن تعتصم بحبل الله المتين، وتلزمه طريقه المستقيم، مهما قعد لك الشيطان على ذلك الطريق .. ومهما وضع أمامك من عقبات ...
واستمع مرة أخرى .. لهذا الحديث العجيب:
عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ:
فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ؟!
فَعَصَاهُ ... فَأَسْلَمَ!!
.
رواه النسائي (3134)، وصححه الألباني.
رابعاً:
إن من محاسن دين الإسلام: ذلك الجمع المبهر بين سلامة الأسس العقلية، وتكامل الجوانب الوجدانية النفسية والروحية، فيجيب عن أسئلة الوجود الكبرى، من أين أتينا؟ وما الغاية؟ وإلى أين المصير؟
ويصاحب ذلك منظومة متكاملة من القيم والأخلاق والتشريعات، التي تنظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بالعالم من حوله، البشر والحيوان والنبات .. وحتى الجمادات.
والإسلام هو الرسالة الخاتمة، التي يؤمن فيها المسلمون بجميع أنبياء الله ورسله، ويؤمن فيها المسلمون بجميع كتب الله ورسالاته التي لم يحرفها البشر، ولا يجعل المسلمون فوق رؤوسهم شيئًا ... إلا كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، يتعلمون هذا الوحي، ويعلمونه للناس ... هداة للحق، ودعاة إلى الخير.
ولم يبق في رحلتك المبهرة هذه: إلا أن تنطق بالشهادتين، وتدخل في الإسلام الدين الحق، وبذلك يكون الله قد أنجاك مرتين ...
مرة من شرك التثليث ...
ومرة أخرى من عبثية الإلحاد!!
وتكون قد اهتديت بعقلك، وقلبك: إلى التوحيد الذي لا شِرك فيه ...
وإلى إطار المعنى، والقيمة، والغاية؛ الذي لا تُعاش الحياة حق العيش إلا في ظله.
في إجابة الأسئلة التالية: (140972)، و(373188)، و(324751)؛ تجد بعض التفاصيل بخصوص الدخول في الإسلام، معالم أولية لطريق الهداية إليه، ونحن في انتظارك بإذن الله لتسعدنا بخبر اكتمال رحلتك بالوصول إلى محطة النجاة والسلامة، دين الإسلام.
والله أعلم.
تعليق