الحمد لله.
أولا:
ما يتداوله هؤلاء المبتدعة يوحي وكأن أهل السنة لا يعرفون حق آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من المحبة والتوقير والموالاة.
فمن أصول أهل السنة أنهم يوجبون موالاة ومحبة آل البيت، فمن أبغضهم فهو معدود من النواصب الضالين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة:
" ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: ( أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي )، وقال أيضا للعباس عمه - وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم - فقال: ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي )...
ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ).
ويتبرءون من طريقة الغلاة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم. ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
ويمسكون عما شجر بين الصحابة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3 / 154).
وأهل السنة يجلّون علماء آل البيت ويعرفون لهم فضلهم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" فمولانا الإمام علي: من الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة -رضي الله عنه- ؛ نحبه أشد الحب، ولا ندعي عصمته، ولا عصمة أبي بكر الصديق.
وابناه الحسن والحسين: فسبطا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيدا شباب أهل الجنة، لو استُخْلِفا لكانا أهلا لذلك.
وزين العابدين: كبير القدر، من سادة العلماء العاملين، يصلح للإمامة، وله نظراء، وغيره أكثر فتوى منه، وأكثر رواية.
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر: سيد، إمام، فقيه، يصلح للخلافة.
وكذا ولده جعفر الصادق: كبير الشأن، من أئمة العلم، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور.
وكان ولده موسى: كبير القدر، جيد العلم، أولى بالخلافة من هارون، وله نظراء في الشرف والفضل.
وابنه علي بن موسى الرضا: كبير الشأن، له علم وبيان، ووقع في النفوس، صيَّره المأمون ولي عهده لجلالته، فتوفي سنة ثلاث ومائتين.
وابنه محمد الجواد: من سادة قومه، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه.
وكذلك ولده الملقب بالهادي: شريف جليل.
وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري - رحمهم الله تعالى " انتهى من "سير أعلام النبلاء" ( 13/ 120).
فمحبة آل البيت من أصول أهل السنة والجماعة، وعلماء الحديث أصحاب التصانيف يولون هذه المسألة أهميتها، فلذا يشتهر في مصنفاتهم عقد أبواب لبيان فضائل ومناقب آل البيت.
ثانيا:
من إجلال أهل السنة لآل البيت أنهم يأخذون من علم أهل العلم منهم من صحابة ومن جاء بعدهم، فمرويات آل البيت مشهورة في كتب السنة والتفسير وغيرها، وكل من له أدنى مطالعة لمصنفات أهل العلم يعرف هذا الأمر، ومن ينكره فهو مفتر كاذب، فيكفي فتح أي كتاب تفسير بالمأثور كـ "تفسير الطبري"، فسيجد المطالع أنه مشحون بالروايات المنقولة عن علي وابن عباس - وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - وتلامذته.
وكذا المطالع في الكتب المخصصة لنقل أقوال السلف في المسائل الفقهية ككتاب "الإشراف" لابن المنذر، فسيجدها مشحونة بأقوال علماء آل البيت كعلي وابن عباس وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق.
لكن قد تكثر روايات بعضهم، وقد تقل، فمن المعلوم لكل من له معرفة بعلم الحديث أن كثرة مرويات الراوي العدل الثقة في كتب السنة، أو قلتها: لا ترجع إلى قوة محبة المصنفين للراوي أو ضعفها؛ وإنما هي راجعة إلى أمور أخرى، وهي:
الأمر الأول: مدى تفرغ الراوي لطلب الحديث.
فلذا نجد أبا هريرة رضي الله عنه أشهر محدث بين الصحابة، كثُرَتْ مروياته بسبب تفرغه لطلب الحديث.
روى البخاري (118)، ومسلم (2492) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ( إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) إِلَى قَوْلِهِ ( الرَّحِيمُ ) إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ ).
وكحال ابن عباس رضي الله عنه، كما روى الدارمي (587) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا فُلَانُ! هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ. فَقَالَ: وَاعَجَباً لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ، وَفي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَرَى؟
فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ، فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ؟ أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ، فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ.
قَالَ: فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، فَقَالَ: كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي ).
فلذا من تأخر إسلامه ثم كثرت مشاغله بالجهاد ونحوه: قلت مروياته، كحال خالد بن الوليد حيث يذكرون له خمسة أحاديث.
الأمر الثاني: مدى تفرغه لتبليغ علمه والتحديث به، واجتماع طلاب الحديث حوله.
فمن تفرغ منهم للتحديث والتعليم وقصده الطلاب كثرت مروياته، وهذا كان حال عدد من الصحابة، كأبي هريرة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم.
فأبو هريرة ربما كان يحدث في المجلس الواحد فيكثر، كما تشير رواية عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو فُلاَنٍ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ، فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ) .
رواه البخاري (3568)، ومسلم (2493) وفي روايته: ( أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ ...).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" وسرد الحديث: أن يؤتى به متتابعا على الولاء. وكأنها إنما أنكرت سرد الحديث وكثرته، وأرادت منه أن يتحدث قليلا بتثبّت " انتهى من "كشف المشكل" (4/265).
ومنهم من تقدم إسلامه وكثر سماعه للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مشاهده معه، لكن لم يتفرغ للتحديث فقلت مروياته، وهذا حال عدد من كبار الصحابة كالزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله.
فبعضهم كان يخشى أن يقع منه زيادة أو نقص سهوا.
روى البخاري (107) عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: (إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).
الأمر الثالث: مدى طول بقائه في هذه الدنيا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأبو هريرة مثلا عاش بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حوالي 49 عاما، فقد عاش إلى أواخر خلافة معاوية رضي الله عنه.
وكذا الحال بالنسبة لعدد من مشاهير محدثي الصحابة، كعائشة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي مقابل هذا: نجد من تقدمت وفاته، رغم طول صحبته، وحرصه على العلم: قلّت مروياته كحال أبي بكر الصديق، فمجموع ما يروى له أقل من مائة وخمسين رواية.
وعلى هذا الأساس يتعامل مع مرويات آل البيت – وعلى هوى الشيعة هم محصورون في علي وفاطمة رضي الله عنهما وذريتهما -.
وراجع للأهمية جواب السؤال رقم: (10055).
فأما علي رضي الله عنه فبسبب تقدم إسلامه، وطول صحبته، وتأخر وفاته: فقد كثرت مروياته، حيث يذكرون له خمسمائة وسبعة وثلاثين حديثا، وهذا عدد أكبر من عدد مرويات أبي بكر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.
وأما فاطمة رضي الله عنها، فبسبب تقدم وفاتها جدا، حيث توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر فقط، فلذا قلت مروياتها، فيذكرون لها ثمانية عشرة حديثا، وهذا أكثر من مرويات عدد من أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن.
وأما الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فبسبب صغر سنهما جدا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانا في سن الطفولة؛ بسبب ذلك قلت مروياتهما.
وهذه الأرقام المذكورة على حسب ما ورد عند ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه "أسماء الصحابة، وما لكل واحد منهم من العدد".
وأما من جاء بعدهم من ذريتهم، فمن اعتنى منهم بالحديث والعلم، وجلس له طلاب العلم: فإن أصحاب المصنفات يروون لهم بحسب ما يصلهم من مروياتهم.
كحال محمد بن علي بن الحسين المسمى بالباقر، وولده جعفر المسمى بالصادق، فبسبب علمهما فقد نقل أهل العلم ما وصل إليهم من حديثهم.
قال الأستاذ أحمد بن عبد الله العمودي:
" لقد اتفق النقاد على ثقة وإمامة أبي جعفر الباقر رحمه الله، ولذلك نجد أن مروياته منتشرة ومبثوثة في كتب التفسير بالمأثور وكتب السنة المطهرة، وبعد تتبع مروياته وآراء الإمام الباقر في الكتب الستة، ومسند أحمد، وموطأ مالك، وسنن الدارمي، وتفسير الطبري، نجد أنها بلغت (339) رواية… " انتهى. "الإمام أبو جعفر الباقر مروياته وآرؤه في كتب التفسير بالمأثور والسنة المطهرة" (1/54).
وقالت الأستاذة لطيفة إبراهيم القاسم الهادي:
" وسأذكر في هذه الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها: وهي كالتالي: اتفق النقاد من أئمة الجرح والتعديل على توثيق الإمام جعفر الصادق … وقد كانت له منزلة خاصة عند أهل السنة والجماعة... وقد بلغت مرويات الإمام جعفر (236) رواية بالمكرر... " انتهى من "مرويات الإمام جعفر الصادق في السنة النبوية" (2/686).
فالحاصل؛ أن علماء الحديث من أهل السنة قد اعتنوا بمرويات آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلوها في مصنفاتهم ولم يهملوها، وإن قلّت مرويات بعضهم فهذا راجع إلى قلّة حديثهم أو تحديثهم كما سبق، وليس بسبب إهمال أهل العلم لهم.
وراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (217881).
ومن قلت مروياته فليس لأهل العلم أن يكذبوا عليه ليكثروا مروياته، كما تفعل الشيعة الرافضة، بل علماء السنة يروون ما وصلهم ولو كان قليلا، مع محبتهم له والاعتراف بفضله وعلمه.
كما قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة أبي جعفر الباقر رحمه الله تعالى:
" ولقد كان أبو جعفر إماما مجتهدا، تاليا لكتاب الله، كبير الشأن، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نحابيه، ولا نحيف عليه، ونحبه في الله؛ لما تجمع فيه من صفات الكمال " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (4/402).
والله أعلم.
تعليق