الاثنين 24 جمادى الأولى 1446 - 25 نوفمبر 2024
العربية

إذا لم تكف أموال المفلس لسداد دينه فالباقي دين عليه لا يسقط بالإفلاس

127591

تاريخ النشر : 23-10-2009

المشاهدات : 24672

السؤال

في القانون الأمريكي يقوم الشخص الذي عليه ديون ولا يستطيع أن يسددها بالحصول على مذكرة من المحكمة تسمى مذكرة الإفلاس (حتى ولو كانت هذه الديون المستحقة لأصحابها من الربا) ، وفي هذه المذكرة يقوم المدين بكتابة كل الديون المستحقة لأصحابها الدائنين بالإضافة إلى كتابة اسم كل دائن على حدة ، ويقوم المدين بإعطاء الدائن وثائق تشتمل على الدخل الذي يتقاضاه والذي يشير إلى عدم مقدرته على سداد هذه الديون . ويقوم المدين كذلك بكتابة كل الأصول والممتلكات التي يمتلكها ، وتقوم المحكمة بالتحفظ والحجز على هذه الممتلكات ثم بيعها في مزاد علني لمن يشتريها بأعلى سعر ، وللمدين أن يستثني بعض الأصول والممتلكات من هذه العملية أي لا تقدم للبنك للتحفظ عليها ، وبعد ذلك يتم توزيع المال الذي جاء من المزاد على عدد الدائنين بناء على المبلغ المستحق لكل دائن بحسب الأولوية . وفي أغلب الأوقات فإن المال الذي تم تحصيله من المزاد لا يكون كافياً لسداد كل الدين المستحق للدائنين ، إلا أن المحكمة تخلي ساحة المدين من كافة المسؤوليات القانونية حتى يتمكن من سداد أي أرصدة متبقية عليه . وعلى ضوء ما سبق ، هل يكون واجباً على المدين المسلم سداد الدين أو الرصيد الذي لم تتمكن المحكمة من سداده (فيما عدا الربا) ، حتى ولو كانت الأصول والممتلكات التي تم أخذها لسداد الديون عبارة عن متجر أو سوق وقيمته أعلى مما تم الحصول عليه من المزاد ؟ وهل لو تم تسليم هذا المتجر للمحكمة فهل سيتبقى مال كاف لسداد كافة الديون المستحقة لأصحابها ؟ وعلى أية حال فإن كل مدين يعلم يقيناً أن هذا سيكون هو الدخل الوحيد لهم عندما يتم عمل الإجراء السالف الذكر عن طريق المحكمة وهو إشهار الإفلاس .

الجواب

الحمد لله.

يحسن التعرف على بعض أحكام الحجر في الشريعة الإسلامية ثم نتعرض لما ذكر في السؤال .

فالإِْفْلاَسُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ : أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الشَّخْصِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ .

فإذا كان المدين كذلك ، وكانت الديون حالَّة (غير مؤجلة) وطلب الغرماء (الدائنون) من الحاكم أن يحجر عليه ، وجب على الحاكم أن يحجر على أمواله ، ويمنعه من التصرف فيها ، ويترتب على هذا الحجر أحكام :

1- منع المدين من التصرف في ماله .

2- تعلق حق الغرماء بهذا المال .

3- من وجد من الغرماء عين ماله عند المفلس فهو أحق به من غيره من الغرماء ، كما لو كان أعطاه قرضاً ، أو باعه سلعة بالتقسيط ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) رواه البخاري (2402) ومسلم (1559) .

4- أن للحاكم أن يبيع ماله ويعطي للغرماء حقوقهم .

ودليل ذلك : أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان عليه ديون ، فكلم غرماؤه الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فحجر عليه وباع ماله . رواه البيهقي والحاكم ، وهو حديث مختلف فيه ، صححه ابن كثير في "إرشاد الفقيه"  (2/48) ، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (1435) .

ويُترك للمفلس من ماله : ما يحتاج إليه ولا يستغني عنه مثل : الثياب ، والكتب ، والبيت الذي يسكنه ، وآلات الصنعة ، والقوت الضروري ، ورأس مال التجارة .... إلخ

ويؤخذ الزائد عن حاجته من هذه الأشياء ، ويترك له ما يكفيه بلا زيادة .

وذهب بعض العلماء (الإمامان مالك والشافعي) إلى أنه إذا كان يقيم في بيت يملكه فإنه يؤخذ منه ويُباع ، ويُستأجر له بيت يسكنه .

وإذا باع الحاكم ماله فإنه لا يقسمه على الغرماء بالتساوي ، وإنما على نسبة ديونهم ، فلو كان أحدهما له ألف والآخر له خمسمائة ، فيقسم المال بينهما : لصاحب الألف : الثلثان ، ولصاحب الخمسمائة : الثلث .

قال الحافظ في الفتح :

" َذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ ظَهْر فَلَسُهُ فَعَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْر عَلَيْهِ فِي مَالِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ عَلَيْهِ وَيَقْسِمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ " انتهى .

وهذا ؛ إذا لم يكف المال جميع الديون ، فإن كفى أخذ كل دائن حقه بلا زيادة ، ثم رُدَّ الباقي ـ إن بقي شيء ـ إلى المفلس ، لأنه حقه .

فإذا كان ماله لا يكفي الديون كلها ، فإنه يوزع الموجود على الدائنين ، وتبقى سائر حقوقهم دَيْناً عليه ، متى قدر أن يقضيها وجب عليه ذلك .

انظر : "المغني" (4/265-266) – "المجموع" (13/278-284) (طبعة دار الفكر) – "المبسوط" (24/156-166)– "فتح الباري" (5/66) (دار المعرفة - بيروت ، 1379) - "الموسوعة الفقهية" (5/246 ، 301 - 322) – "الشرح الممتع" (9/78-81) .

وعلى هذا ، فقول السائل : هل يكون واجباً على المدين المسلم سداد الدين أو الرصيد الذي لم تتمكن المحكمة من سداده ؟

فالجواب : نعم ، ويبقى ديناً عليه في ذمته حتى يتمكن من سداده .

قال ابن قدامه رحمه الله في "المغني" (6/581) :

"وإذا فُرِّق مال المفلس وبقيت عليه بقية وله صنعة فهل يجبره الحاكم على إيجار نفسه ليقضي دينه؟ على روايتين ...." انتهى . ثم ذكر القولين بأدلتهما ، ولم يصرح بالراجح منهما ، غير أنه يظهر من كلامه أنه يميل إلى القول بأن الحاكم يجبره على العمل ليقضي دينه .

فعلى كلا القولين : يستفاد من هذا : أن باقي حق الغرماء لا يزال متعلقاُ بذمته .

ثم قال ابن قدامة (6/582) :

"وإن فُكَّ الحجر عليه [يعني : بعد بيع ماله] لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته حتى يملك مالاً ...." انتهى .

فيستفاد منه أيضاً : أن ما بقي من حق الغرماء لم يسقط ، بل لا يزال دَيناً عليه .

وقول السائل : حتى ولو كانت الأصول والممتلكات التي تم أخذها لسداد الديون عبارة عن متجر أو سوق وقيمته أعلى مما تم الحصول عليه من المزاد ؟

فالجواب :

أن الواجب على الحاكم ألا يبيع ممتلكات المفلس إلا بثمن المثل ، فلا يبيعها بأقل من ذلك .

انظر : "الموسوعة الفقهية" (5/318) .

ولما كانت هذه القضية منظورة في بلاد غير إسلامية ، فمن الطبيعي أن يكون لهم قوانينهم وأنظمتهم التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها ، وتكون مخالفة لما شرعه الله عز وجل .

ولهذا ؛ لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في الإقامة في تلك البلاد ، إلا أن يكون مضطراً لذلك ، لأنه سيخضع لتلك القوانين ، شاء أم أبى .

تنبيه :

المديونية الربوية لا يجوز القيام بسدادها ، فليس عليه إلا دفع رأس المال فقط ، إلا إذا أُكره على دفعها وهُدِّد بالسجن ونحوه فلا حرج عليه ، ويكون مكرهاً ، مع وجوب التوبة إلى الله من الاقتراض بالربا .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب