الفرق بين الجهر بالذِّكر بعد الصلوات والذِّكر الجماعي وموقف الإمام المجبر على ذلك
عندنا في مدينتنا وزارة الأوقاف تُلزم الأئمة بأن يدعو دبر الصلوات الخمسة جهراً ، فهل يجوز لهم ذلك ؟ ، وماذا يفعل الإمام الذي أُلزم بذلك ؟ .
هناك بعض شباب السلفية عندما يدعو الإمام ينهضون ، ولا يكملون أذكارهم ، فمنهم من يصلي ركعتين ، ومنهم من يخرج من المسجد ، إنما أنا أجلس في مكاني ، وأكمل الأذكار ، ولا أنهض ، ولا أدعو معه ، أي : لا أؤمن على دعائه ، فهل فعل هؤلاء يقول به أحد من العلماء ؟
الجواب
الحمد لله.
أولاً:
ثمة فرقٌ بين الجهر بالأذكار في أدبار الصلوات ، وبين الذِّكر الجماعي ، والأول
يقول به عامة علمائنا المعاصرين ، وله أصل في السنَّة ، ولا ينبغي أن يكون رفعاً
يشوش على المصلين المسبوقين في صلاتهم ، والثاني – أي : الذكر الجماعي - مبتدع لا
أصل له في السنَّة النبوية .
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : ما حكم الذِّكر الجماعي بعد الصلاة
على وتيرة واحدة ، كما يفعله البعض ، وهل السنَّة الجهر بالذكر أو الإسرار؟
فأجاب :
" السنَّة الجهر بالذكر عقب الصلوات الخمس ، وعقب صلاة الجمعة بعد التسليم ؛ لما
ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس
من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم " ، قال ابن عباس : " كنت أعلم
إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته " .
أما كونه جماعيّاً بحيث يتحرى كل واحد نطق الآخر من أوله إلى آخره وتقليده في ذلك :
فهذا لا أصل له ، بل هو بدعة ، وإنما المشروع أن يذكروا الله جميعا بغير قصد لتلاقي
الأصوات بدءاً ونهاية " انتهى .
"فتاوى الشيخ ابن باز" (11/191) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : عن حكم ترديد الأذكار المسنونة
بعد الصلاة بشكل جماعي ؟
فأجاب :
" هذه بدعة ، لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما الوارد أن كل إنسان
يستغفر ، ويذكر لنفسه .
لكن السنَّة الجهر بهذا الذكر بعد الصلاة ، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
قال : " كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف إذا سمعهم " ، وهذا دليل على أن السنَّة
الجهر به ، خلافاً لما كان عليه أكثر الناس اليوم من الإسرار به ، وبعضهم يجهر
بالتهليل دون التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ! ولا أعلم لهذا أصلاً من السنَّة في
التفريق بين هذا وهذا ، وإنما السنَّة الجهر ... .
فالمهم : أن القول الراجح : أنه يسن الذكر أدبار الصلوات على الوجه المشروع ، وأنه
يسن الجهر به أيضاً - أعني : رفع الصوت - ولا يكون رفعاً مزعجاً ، فإن هذا لا ينبغي
، ولهذا لما رفع الناس أصواتهم بالذكر في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في قفولهم
من خيبر قال : ( أيها الناس ، اربَعوا على أنفسكم ) ، فالمقصود بالرفع : الرفع الذي
لا يكون فيه مشقة وإزعاج " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (13/261-262) .
وسئل الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله - :
مسجد نصلي فيه ، وعندما ينتهي الجماعة من الصلاة يقولون بصوت جماعي : أستغفر الله
العظيم وأتوب إليه ، هل هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فأجاب :
" أما الاستغفار : فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه إذا سلَّم استغفر
ثلاثًا قبل أن ينصرف إلى أصحابه " .
وأما الهيئة التي ذكرها السائل بأن يؤدَّى الاستغفار بأصوات جماعية : فهذا بدعة ،
لم يكن مِن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كلٌّ يستغفر لنفسه ، غير مرتبط
بالآخرين ، ومِن غير صوت جماعي ، والصحابة كانوا يستغفرون فُرادى بغير صوت جماعي ،
وكذا مَن بعدهم مِن القرون المفضلة .
فالاستغفار في حد ذاته : سنَّة بعد السلام ، لكن الإتيان به بصوت جماعي : هذا هو
البدعة ، فيجب تركه ، والابتعاد عنه " انتهى .
"المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان" (3/72)
.
وانظر أجوبة الأسئلة : ( 32443
) و ( 34566 ) و (
10491 ) .
ثانياً:
إذا عُلم الفرق بين الجهر بالأذكار والأدعية الثابتة عقب الصلاة وبين الدعاء
الجماعي : تبين أنه لا يجوز للإمام أن يأتي بالأوراد التي عقب الصلاة جماعة بصوت
واحد ، ولا أن يدعوَ دعاءً عامّاً بصوت جماعي ، كما لا يجوز لدوائر الأوقاف في بلاد
الإسلام أن تُلزم الأئمة بهذا ؛ لعدم شرعيته .
والدعاء الجماعي المبتدع أدبار الصلوات له صورتان :
الأولى : ترديد الدعاء - سواء كان من أدعية أدبار الصلوات أم لم يكن - من جميع
المصلين بصوت واحد .
الثانية : أن يدعوَ الإمام ، ويؤمِّن المصلُّون على دعائه ، مع علمهم به ،
وانتظارهم له .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله :
" الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة ، مما يتعلق بالعبادات مثلا ، فأتى به
المكلف في الجملة أيضا ، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها ، مما
يعلم من الشارع فيها التوسعة ، كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين : من جهة معناه ،
ومن جهة عمل السلف الصالح به .
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة ، أو زمان مخصوص ، أو مكان مخصوص ، أو
مقارنا لعباده مخصوصة ، والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية أو الزمان أو المكان
مقصود شرعا ، من غير أن يدل الدليل عليه ، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل
عليه .
فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله ، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد ،
وبصوت ، أو في وقت معلوم ، مخصوص عن سائر الأوقات ، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على
هذا التخصيص الملتزم ، بل فيه ما يدل على خلافه ؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة
شرعا شأنها أن تفهم التشريع ، وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد ؛
فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله
صلى الله عليه و سلم ، في المساجد وما أشبهها ، كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء
والكسوف ، فُهِم منها بلا شك أنها سنن ، إذا لم تفهم منها الفرضية ؛ فأحرى أن لا
يتناولها الدليل المستدل به ، فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة بذلك .
وعلى ذلك ترك التزام السلف لتلك الأشياء ، أو عدم العمل بها ، وهم كانوا أحق بها
وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد ؛ لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا في
مواضع كثيرة ، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من
الذكر ، كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الآية وقوله
: وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون بخلاف سائر العبادات .
ومثل هذا الدعاء ؛ فإنه ذكر لله ، ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ، ولا قيدوه
بأوقات مخصوصة ، بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات ، إلا ما عينه الدليل
كالغداة والعشي ، ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره ، كالذكر في العيدين
وشبهه ، وما سوى فكانوا مثابرين على إخفائه ...
فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولا ، لأنه قيد فيه بالرأي ، وخالف
من كان أعرف منه بالشريعة ، وهم السلف الصالح رضي الله عنهم "
الاعتصام (1/249-250) .
وقال الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله - :
في الذكر الجماعي ، قاعدة هذه الهيئة التي يُردُّ إليها حكمها هي : أن الذكر
الجماعي بصوت واحدٍ سرّاً ، أو جهراً ، لترديد ذكر معين ، وارد أو غير وارد ، سواءً
كان من الكل ، أو يتلقونه من أحدهم ، مع رفع الأيدي ، أو بلا رفع لها : كل هذا وصف
يحتاج إلى أصل شرعي يدل عليه من الكتاب والسنَّة ؛ لأنه داخل في عبادة ، والعبادات
مبناها على التوقيف والاتباع ، لا على الإحداث والاختراع ؛ ولهذا نظرنا في الأدلة
في الكتاب والسنَّة : فلم نجد دليلاً يدلُّ على هذه الهيئة المضافة ، فتحقق أنه لا
أصل له في الشرع المطهر ، وما لا أصل له في الشرع فهو بدعة ؛ إذاً فيكون الذكر
والدعاء الجماعي بدعة ، يجب على كل مسلم مقتدٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم تركها
، والحذر منها ، وأن يلتزم بالمشروع .
" تصحيح الدعاء " ( ص 134 )
.
وعلى الإمام – ومعه إخوانه الأئمة – أن يبذل وسعه في دفع الأمر من الأوقاف ، وبذل
النصح لهم ببيان سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب .
ويجوز للإمام أن يجهر بالدعاء الوارد عقب الصلوات ليؤمِّن على دعائه المصلون لكن
بقصد التعليم ، لا بقصد الفعل ذاته ، وهي وسيلة للتخلص من أمر الأوقاف ، ولتعليم
الناس ، وتأليف قلوبهم ، حتى إذا عقلوا السنَّة ترك ، وتركوا .
وهكذا ما تفعله أنت ـ أيها الأخ الكريم ـ من الجلوس مع الجماعة ، وإكمال ذكرك وحدك
، هو أمر حسن إن شاء الله ، وما يفعله إخوانك من الانصراف ، وعدم شهود الدعاء
الجماعي ، إن كان يترتب عليه مفسدة بين جماعة المسجد ، أو تنافر في القلوب ،
وإلقاء للبغضاء بين المسلمين ، فالأولى بهم أن يجلسوا مع الناس ، ويكملوا أذكارهم
وحدهم .
وإن لم يترتب على خروجهم مفسدة أو فتنة بين جماعة المسجد ؛ فما فعلوه لا بأس به إن
شاء الله ، بل هو أمر مشروع ، وإن كان فيهم من يقتدي به الناس ، ويمكن أن يؤدي
خروجه إلى منع ذلك ، فالمشروع في حقه أن يخرج ، ويعلم الناس السنة .
والخلاصة : أن الدعاء بالهيئة الجماعية بعد الصلاة ، مخالف للسنة ؛ والخروج من
المكان أمر مشروع لمن فعله ، خاصة ورفع الصوت على هذه الهيئة غالبا ما يحصل منه
تشويش على الحضور ؛ فإن ترتب على ذلك الخروج مفسدة ، فالأولى الجلوس في المصلى ،
وتكملون أذكاركم في أنفسكم ، حتى ينتهي الجماعة .
والله أعلم