هل ننصحه بالسفر لبلاد الكفر ليتقوَّى ماديّاً ويرجع لبلده المسلم ؟
أنا أقيم في بلد عربي ، والحالة المعيشية لنا لا تمكننا من بناء أسرة في ظل الفساد الخلقي الحاصل عندنا ، إذ إنه من شبه المستحيلات أن نوفر مسكناً للزواج ، والاستقرار في وقت كثر فيه الفحش ، والعري ، والإباحيات ، وغلاء الأسعار ، والكثير من الشباب يهاجر إلى أوروبا أو أمريكا لمواصلة الدراسات العليا ، والعمل ، والزواج ، لتحسين ظروفنا المعيشية ، والعودة بعد تكوين أنفسنا ماديّاً ، ودراسيّاً للاستقرار في بلداننا ، أو في البلدان العربية .
هل يعتبر هذا من عدم التوكل على الله ؟ أم أنه من باب الأخذ بالأسباب ؟ .
الجواب
الحمد لله.
أولاً :
يجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله تعالى قد قدَّر عليه رزقه في
الأزل ، وأنه تعالى أمر ملائكته أن يكتبوا رزقه وهو في بطن أمه ، وعليه أن يعتقد
أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها الذي قدَّره الله لها ، كما تستوفي أجلها الذي
كتبه الله لها ، وبذلك جاءت النصوص النبوية الواضحة كما سيأتي .
ثانياً :
ننبه في هذا السياق إلى أمور غاية في الأهمية ، منها :
1. ما قلناه آنفاً لا ينافي الأخذ بالأسباب في تحصيل الرزق ، والمسلم مأمور ببذل
الأسباب التي تأتي له بالمال ، لكن لا ينبغي له الاتكال على هذه الأسباب وجعلها
مسبِّبات للرزق ! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"فالالتفات إلى الأسباب : شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً : نقصٌ في
العقل ، والإعراض عن الأسباب المأمور بها : قدحٌ في الشرع ، فعلى العبد أن يكون
قلبُه معتمداً على الله ، لا على سبب من الأسباب ، والله ييسر له من الأسباب ما
يصلحه في الدنيا والآخرة ، فإن كانت الأسباب مقدورة له ، وهو مأمور بها : فعَلَها
مع التوكل على الله ، كما يؤدي الفرائض ، وكما يجاهد العدو ، ويحمل السلاح ، ويلبس
جنَّة الحرب (الدرع) ، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر
به من الجهاد ، ومَنْ تَرَكَ الأسباب المأمور بها : فهو عاجز ، مفرِّط ، مذموم"
انتهى .
" مجموع الفتاوى " ( 8 / 528 ، 529 ) .
2. لا يجوز للمسلم سلوك الطرق المحرَّمة في تحصيل المال .
3. لا ينبغي للمسلم أن يعيش مع همِّ الرزق ، وهمِّ تأمين المستقبل لأولاده – كما
يقول كثيرون - ، وينذر حياته من أجل هذا الأمر ، ومثل هذا الأمر فيه مفسدتان :
أ. أنه يدل على خلل في اعتقاده بأن رزقه مكتوب لا ريب فيه .
ب. أنه قد يجعله يرتكب المحرَّمات من أجل تحصيل المال ، كأن يأخذ المال بالربا ، أو
يعمل في أماكن لا يحل له العمل بها .
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
هل يعتبر قول المرأة العاملة أو اعتقادها : ( أنها تعمل من أجل أن تؤمِّن مستقبلها
، ومستقبل أبنائها فيما لو طلقت أو توفي زوجها ، فهي لا تدري ما تأتي به الأيام من
أمور ) : هل يعتبر هذا من القدح في عقيدة القضاء والقدر لدى المسلم ؟ .
فأجابوا :
"المسلم يؤمن بقضاء الله وقدره ، وأن الله كتب رزقه عند نفخ الروح فيه وهو في بطن
أمه ، وأن رزقه آتيه لا محالة ؛ لما ثبت عن عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه - إلى قوله - : ثم
يبعث الله ملكا بأربع كلمات ، فيكتُب عملَه وأجلَه ورزقَه وشقي أو سعيد ) الحديث –
متفق عليه - ؛ ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( أيها الناس اتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، فإن نفساً لن تموت
حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل
ودعوا ما حرم ) رواه ابن ماجه في " سننه " ( ج 2 ص 725 ) ، ورواه ابن حبان
في " صحيحه " .
واعتقاد ذلك والإيمان به لا ينافي أن يسعى الإنسان في طلب الرزق ، وبذل الأسباب
المشروعة في ذلك ، مع عدم الاعتماد عليها ، والاعتقاد بأن الرازق ، والنافع ،
والضار : هو الله وحده سبحانه .
وما يجري على ألسن بعض الناس من قوله : " أؤمِّن مستقبلي ، أو مستقبل أولادي " :
فهذه الألفاظ التي يستعملها من يغلو في الاعتماد على النفس والمناصب والماديات
وحدها.
فينبغي للمسلم أن يبتعد عن مثل هذه الألفاظ ، التي تقدح في كمال توكله على الله ،
وفي كمال رجائه لله ، وخوفه منه ، وأن يلجأ إلى الله سبحانه ويتضرع بين يديه في
الشدة والرخاء ، مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ، الشيخ عبد الله بن غديان ،
الشيخ صالح الفوزان ، الشيخ بكر أبو زيد .
" فتاوى اللجنة الدائمة " 2 ( 2 / 505 – 507 ) .
ثالثاً :
السفر إلى بلاد الكفر فيه مخاطرة عظيمة على الدين والأخلاق ،
والذي يعيش في تلك الديار قد يحصِّل مالاً ، لكن ذلك – في غالب الأحيان – سيكون على
حساب شيء كثير من دينه وسلوكه ، وإن نجا هو من ذلك فلن تنجو أسرته من بنين وبنات
بسهولة ، فهو يخاطر ويغامر ، ولكن للأسف يخاطر ويغامر بدينه ، وقلَّ من يسلم .
وبما أن الله تعالى جعل لكم باب رزق في بلاد عربية مسلمة : فأنتم في غنى عن
المخاطرة ، فالتزم التقوى ، واحرص على الفضيلة ، ولا تلتفت
لبناء دنيا على حساب دين ، ولا تعمِّر دنياك بخراب آخرتك .
واعلم أن كثيرين عضوا - ويعضون - أصابع الندم على ذهابهم لتلك البلاد ، وعدم قدرتهم
على الرجوع لبلادهم ، إما فتنة بالحياة هناك والمال ، وإما بسبب عجزه وضعفه بسبب
كبر أولاده ، وعدم القدرة على السيطرة عليهم ، فانظر إلى الهالك كيف هلك ولا تسلك
طريقه ، وانظر إلى الناجي كيف نجا واحرص على المشي على طريقه .
سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
هل تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر للعمل فيه ، وهل يجوز أخذ جنسية غير جنسية إسلامية ؟
.
فأجابوا :
"إذا أردت العمل وطلب الرزق : فعليك بالسفر إلى بلاد المسلمين لأجل ذلك ، وفيها
غنية عن بلاد الكفار ؛ لما في السفر إلى بلاد الكفر من الخطر على العقيدة ، والدين
، والأخلاق ، ولا يجوز التجنس بجنسية الكفار ؛ لما في ذلك من الخضوع لهم ، والدخول
تحت حكمهم" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ، الشيخ عبد الله بن غديان ،
الشيخ صالح الفوزان ، الشيخ بكر أبو زيد .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 12 / 58 ) .
ونسأل الله تعالى أن يرزقك رزقاً حسناً ، وأن يوفقك لما فيه رضاه ،
وأن يثبتك على الحق ، وأن يجمع شملك مع أسرتك على طاعته .
والله أعلم