في السجود علينا أن نبقي أيدينا بعيدة عن أجسادنا ، لأن هذه سنة عن النبي ، ولكن في صلاة الجماعة لا نقدر علي ذلك ، فلا نقدر علي أن نبقي أيدينا بعيدة عن أجسادنا ، فهل هذا جائز ؟
الحمد لله.
السنة أن يجافي المصلي يديه عن جنبيه في السجود – وفي الركوع أيضا - ؛ لما روى البخاري (828) عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا "
(وَلَا قَابِضِهِمَا) أي لا يضمهما إلى جنبيه .
"فتح الباري" (2/302)
وقال الترمذي رحمه الله في سننه (1/346) : " الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يُجَافِيَ الرَّجُلُ يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ " انتهى .
وعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها قَالَتْ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ جَافَى حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَضَحَ إِبْطَيْهِ ) رواه مسلم (497) .
يَعْنِي: بَيَاضَهُمَا.
وفي رواية له أيضا (496) : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ )
وروى الترمذي (304) عن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قال : ( ثُمَّ أَهْوَى إِلَى الْأَرْضِ سَاجِدًا ، ثُمَّ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ إِبْطَيْهِ ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ ) رواه مسلم (495)
قال النووي رحمه الله : " معناه : باعد مرفقيه وعضديه عن جنبيه " انتهى .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ , وَبَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ إذَا سَجَدَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ , فِي " رِسَالَتِهِ " : جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إذَا سَجَدَ لَوْ مَرَّتْ بَهمَةٌ لَنَفذتْ , وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مُبَالَغَتِهِ فِي رَفْعِ مَرْفِقَيْهِ وَعَضُدَيْهِ " انتهى .
"المغني" (1/306)
وقال ابن المنير رحمه الله : " الْحِكْمَة فِيهِ أَنْ يَظْهَر كُلّ عُضْو بِنَفْسِهِ ، وَيَتَمَيَّز حَتَّى يَكُون الْإِنْسَان الْوَاحِد فِي سُجُوده كَأَنَّهُ عَدَد ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَسْتَقِلّ كُلّ عُضْو بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْتَمِد بَعْض الْأَعْضَاء عَلَى بَعْض فِي سُجُوده " انتهى .
"فتح الباري" (4 / 200)
وهذا التجافي في الركوع والسجود سنة وليس بواجب بالاتفاق ، فمن فعله أثيب عليه ، ومن تركه وهو يقدر عليه لم يأثم بتركه ، ولكنه تارك لسنة الركوع والسجود في ذلك .
ثم إنه مقيد بما إذا لم يترتب عليه أذى من بجواره ، أو كان في حال بحيث يشق عليه التجافي ، كما يحصل ذلك في صلاة الجماعة غالبا ؛ فإن من يتكلفه – وخاصة مع تلاصق الصف – آذى جاره ، أو ضيق عليه .
قال في "كشاف القناع" (1/353) :
" ( وَيُسَنُّ ) لِلسَّاجِدِ ( أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ) وَأَنْ يُجَافِيَ ( بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ ) وَأَنْ يُجَافِيَ ( فَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ ) ... ( مَا لَمْ يُؤْذِ جَارَهُ ) الَّذِي بِجَانِبَيْهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ ، لِحُصُولِ الْإِيذَاءِ الْمُحَرَّمِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ " انتهى .
وقال المرداوي في "الإنصاف" (2/69) :
" وَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُؤْذِ جَارَهُ ؛ فَإِنْ آذَى جَارَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ينبغي كذلك أن يفرِّج يديه عن جنبيه ، ولكنه مشروط بما إذا لم يكن فيه أذيَّة ، فإنْ كان فيه أذيَّة لِمَن كان إلى جنبه فإنه لا ينبغي للإِنسان أن يفعل سُنَّة يؤذي بها غيره ؛ لأن الأذية فيها تشويش على المصلِّي إلى جنبه وتلبيس عليه ، ثم إنه يُخشى أن يكون ذلك داخلاً في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا ً) ، فإنَّ هذا يشمَل الأذى القولي والفِعلي" انتهى .
"الشرح الممتع" ( 3/90) .
فمن ترك هذا التجافي في الركوع أو السجود لئلا يؤذي أخاه المسلم ، أُجِر على ذلك القصد ، إن شاء الله ، ولعله أن يكتب له أجر السنة التي تركها لذلك المقصد .
قال ابن عثيمين :
" تركُ السنة لدفع الأذية خير من فعل السنة مع الأذية ، فهذا المتورِّك إذا كان بتَوَرُّكِه يؤذي جاره فلا يتورَّك ، وإذا علم الله من نيته أنه لولا هذا لَتَوَرَّكَ فإن الله تعالى يثيبه ؛ لأنه يكون كمن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن مرض أو سافر كُتِب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ) " انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (22 / 24)
وبالجملة : فالتجافي في الركوع والسجود سنة عند القدرة عليه ، وعند عدم القدرة ، أوحصول الأذى به : فلا ينبغي للمصلي أن يتكلفه ، ولكن يأتي منه بقدر ما يستطيع ، دون أن يؤذي أحدا .