حكم العمل مع جزار ، يسرق في تجارته ، ويغش في بيعه !!

13-03-2010

السؤال 145951

أنا فقير جدا ، ولدي عائلة أصرف عليها ، وأنا الابن الأكبر في العائلة ، ولا يوجد دخل لدينا ، حصلت على عمل في جزارة لحوم ، وصاحب العمل سارق في زيادة أسعار اللحوم ، وزيادة الكيلو جرام عند البيع . وأنا أمسح وأقطع وأنظف المحل ، وأنا أعلم بأن صاحب المحل سارق . هل الراتب الذي آخذه منة حرام ولا حلال ، وأنا أعلم أن هناك سرقة واضحة في المحل ؛ أرجو أن تفيدوني ، ولا يوجد لدي مصدر زرق إلا المحل الذي أعمل فيه ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :

ليس من شك في أنك أمام معاناة حقيقية ـ أيها السائل الكريم ـ وأنك أمام ابتلاء حقيقي لصبرك ، وحرصك على تحري الحلال ، رغم ما تعانيه من شدائد . وقد قال الله تعالى :

( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) البقرة/155-157 .

قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :

" فهذه الأمور لا بد أن تقع ، لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين : جازعين وصابرين ؛ فالجازع حصلت له المصيبتان : فوات المحبوب ، وهو وجود هذه المصيبة ، وفوات ما هو أعظم منها ، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ، ففاز بالخسارة والحرمان ، ونقص ما معه من الإيمان ، وفاته الصبر والرضا والشكران ، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان .

وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب ، فحبس نفسه عن التسخط قولا وفعلا ، واحتسب أجرها عند الله ، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ، بل المصيبة تكون نعمة في حقه ، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها ، فقد امتثل أمر الله وفاز بالثواب ، فلهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب . " انتهى .

" تفسير السعدي " (75) .

ثانيا :

اعلم ـ يا عبد الله ـ أن من أعظم ما يعني المبتلى على بلوغ منازل الصبر والرضوان : أن يحسن الظن بربه ؛ وهذا أعظم أسباب فوزه وفلاحه في الدنيا والآخرة :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي ) .

رواه البخاري (7405) ومسلم (2675) واللفظ له .

ومن حسن الظن بالله أن تعلم أن الله عز وجل ما كان ليمنع عبده عن باب من أبواب الحرام ، حت يفتح له من الحلال ما يغنيه عنه ، وما هو خير له . قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق/2،3

وفي مسند الإمام أحمد (20215) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ : ( إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ ) .

صححه الألباني في "الضعيفة" (1 / 62) .

قال ابن القيم رحمه الله ـ الفوائد (47) ـ :

" ما أخذ العبد ما حُرِّم عليه إلا من جهتين : إحداهما : سوء ظنه بربه ، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلالا . والثانية: أن يكون عالما بذلك ، وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه ، ولكن تغلب شهوتُه صبرَه ، وهواه عقلَه ؛ فالأول من ضعف علمه ، والثاني من ضعف عقله وبصيرته . قال يحي بن معاذ : من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرُدَّه !!

قلت: إذا اجتمع عليه قلبه ، وصدقت ضرورته وفاقته ، وقوي رجاؤه : فلا يكاد يرد دعاؤه".

فالنصيحة لك ـ الآن ـ أن تترك العمل مع هذا الجزار الغاش ، حتى لا تكون شريكا له في تجارة السوء ، وعمله المحرم ، وأن تحسن الظن بربك ، وتنزل حاجتك به ، وأن يعظم رجاؤك في الله أن يفرج كربك ، ويقضي حاجتك ، ويغنيك من الحلال الطيب .

لكن اجتهد ـ قبل أن تترك العمل معه ـ في دعوته لترك ما هو فيه من الغش والكسب الحرام ؛ فلعل الله أن يهديه على يديك ، ويكف عن كسب الحرام ؛ فإن رأيت منه استجابة وتركا للكسب المحرم : فبها ونعمت ، وإن لم تجد فاتركه ، وابحث عن عمل آخر .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

" العمل عند هؤلاء الذين يتعاملون بالربا أو الغش أو نحو ذلك من الأشياء المحرمة ، محرم لقول الله تعالى : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة/2 ، ولقوله : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) النساء/140 .

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ) والعامل عندهم لم يغير لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه ، فيكون عاصيا للرسول صلى الله عليه وسلم " .

انتهى من "فقه وفتاوى البيوع" (ص 392) .

وسئل أيضا رحمه الله عن رجل كان يعمل بشركة تصنع البيرة ثم تاب وقدم استقالته فلم يقبلوها ، وهو لا يستطيع أن يعمل في شركة أخرى إلا بالاستقالة من الأولى ، فماذا يفعل ؟

فأجاب الشيخ :

" الذي أشير به عليك أن تبقى في هذه الشركة ، إذا كان في بقائك خير بحيث تؤثر على من فيها فيقلعون عما هم عليه من بيع هذه الأمور المحرمة ، فإن لم يمكن ذلك فإن الواجب عليك تركهم والخروج منهم ؛ وذلك لأن بقاءك عندهم إقرار لما هم عليه من الباطل ، وقد قال الله تعالى ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) فلا يحل لك أن تبقى عند قوم يعصون الله عز وجل أمامك وأنت لا تستطيع أن تعدِّلهم ولا تستطيع أن تنصحهم ، وإذا تركت هذا العمل لله فإن الله سبحانه وتعالى يقول : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) " انتهى .

"فتاوى نور على الدرب" (13/ 158) .

والله تعالى أعلم .

البيوع المحرمة أحكام الوظائف الأخلاق المذمومة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب