الحمد لله.
وقد فسر أهل العلم هذا الحديث التفسير الصحيح ، فقالوا
: إن كلمة ( مَن ) ههنا اسم موصول تفيد الإطلاق ، فيحتمل أن يكون المجدد فردا ،
ويحتمل أن يكون طائفة من الناس ، وبناء عليه فلا يلزم تتبع أسماء أفراد من العلماء
في كل قرن والمفاضلة بينهم لتمييز المجدِّد فيهم ، فقد يكون كلهم ساهم في تجديد هذا
الدين وبعثه في الأمة .
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله :
" الذي أعتقده من الحديث أن لفظ ( مَن يُجَدِّدُ ) للجمع لا للمفرد " انتهى من "
تاريخ الإسلام " (23/180)
ويقول ابن كثير رحمه الله :
" قال طائفة من العلماء : الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه
الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من
الخلف ، كما جاء في الحديث من طرق مرسلةٍ وغير مرسلة ( يحمل هذا العلم من كل خلف
عُدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ) وهذا موجود ولله الحمد والمنة
إلى زماننا هذا ونحن في القرن الثامن " انتهى من "البداية والنهاية" (6/256)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط ، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في
الطائفة ( يعني قد تكون جماعة ) وهو متجه ، فإنَّ اجتماع الصفات المحتاج إلى
تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير ، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص
واحد ، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز ، فإنه كان القائم بالأمر على رأس
المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها ، ومن ثم أَطلَقَ أحمد أنهم
كانوا يحملون الحديث عليه ، وأما من جاء بعده فالشافعي - وإن كان متصفا بالصفات
الجميلة - إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل ، فعلى هذا كل من كان
متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد ، سواء تعدد أم لا " انتهى من "فتح
الباري" (13/295)
وكذلك لا يلزم لانطباق وصف التجديد على شخص معين أن ينتصر الإسلام في زمانه ، وأن
تكون الدائرة للدولة الإسلامية ، فقد يكون المجدد في مجال العلم وليس في مجال
القيادة والسياسة ، بل قد يكون التجديد في جوانب دعوية أو تربوية ونحو ذلك ، فهذا
هو مفهوم إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم : ( يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )
وبهذا الفهم لا يبقى – في ظننا – إشكال لدى السائل في فهم الحديث .
قالت اللجنة الدائمة :
" معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( يجدد لها دينها ) أنه كلما انحرف الكثير من
الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم دينًا -
بعث إليهم علماء أو عالمًا بصيرًا بالإسلام ، وداعيةً رشيدًا ، يبصر الناس بكتاب
الله وسنة رسوله الثابتة ، ويجنبهم البدع ، ويحذرهم محدثات الأمور ، ويردهم عن
انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فسمى ذلك
: تجديدًا بالنسبة للأمة ، لا بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله ، فإن التغير
والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة ، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ
كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينة له ، قال تعالى : ( إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) " انتهى .
عبد العزيز بن باز ، عبد الرزاق عفيفي ، عبد الله بن غديان ، عبد الله بن قعود
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2/247-248)
ويقول العلامة حمود التويجري رحمه الله :
" وأما قصر الحديث على أشخاص معدودين في كل مائة سنة واحد منهم ؛ فهو بعيد جدا ،
والحديث لا يدل على ذلك ؛ لأن لفظة ( مَن ) يراد بها الواحد ، ويراد بها الجماعة .
وعلى هذا فحمل الحديث على الجماعة القائمين بنشر العلم وتجديد الدين أولى من حمله
على واحد بعد واحد منهم .
ويؤيد هذا ما رواه الترمذي وحسنه عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ( إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا ؛ فطوبى للغرباء الذين
يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي )
ويؤيده أيضا ما رواه ابن وضاح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه قال: الحمد لله
الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ؛ يدعون
من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويحيون بكتاب الله أهل العمى....إلى
آخر خطبته رضي الله عنه .
فهذا يدل على أن التجديد يكون في جماعة من أهل العلم ، ولا ينحصر في واحد بعد واحد
منهم " انتهى باختصار.
" إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة " (1/336)
والله أعلم .