ما الفرق بين قوله تعالى :(ويكون الدين لله) وقوله عز وجل :(ويكون الدين كله لله)
قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة/193
وقال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الأنفال/39.
لماذا أتت الآية الكريمة الأولى ( الدين لله ) وفي الآية الكريمة الثانية : ( الدين كله لله )؟
وجزاكم الله خيرا .
الجواب
الحمد لله.
الباحث في بلاغة القرآن الكريم لا بد أن يتأمل في السياق الذي وردت فيه الآيات ،
فكثيرا ما يحمل في طياته بيانا أو إشارة إلى الوجه البلاغي أو التفسيري لما ورد
فيها .
وفي الآيات الواردة في السؤال يحمل السياق في طياته إشارة يحتمل أن تكون هي الجواب
عن الفرق بين قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) البقرة، وقوله عز وجل :
(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) الأنفال .
فآية البقرة سياقها يتحدث عن كفار قريش ، والأمر بقتال المعتدين منهم ، ومقابلة
اعتدائهم بالصد والدفاع ، فقد انتهكوا الحرمات ، واعتدوا وظلموا ، والله لا يجب
المعتدين .
يقول الله عز وجل :
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . فَإِنِ
انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمِينَ . الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )
البقرة/190-194.
وأما سورة الأنفال فهي من السور التي تفصل أحكام الجهاد والقتال ضد عموم الكفار ،
وليس كفار قريش خصوصا ، وتشرع الحكم الذي يعم الأحوال والأزمان والأشخاص ، فكان
سياقها عاما يراد به جميع الكفار .
يقول الله تعالى :
( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الأنفال/ 38-40.
فإذا تبين اختلاف السياقين عرفنا أن السياق الذي يتحدث عن عموم الكفار ، سواء كانوا
مشركين أم أصحاب ديانات أخرى : يناسبه أن يقال فيه ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ ) فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، وعلو الإسلام يقضي أن يكون هو الدين
الظاهر على جميع الديانات ، إما بعدد المسلمين ، أو بالحكم بالشريعة ، أو بفسح
المجال لتبليغ الدعوة الحقة .
وأما السياق الذي يتحدث عن مشركي أهل مكة ، وليس فيهم أي دين آخر ، فيناسبه قوله عز
وجل فيه : ( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )، فلا حاجة لكلمة ( كله ) لأنه دين واحد
في مكة ، وهو دين عبادة الأصنام .
هذا هو حاصل ما ذكره بعض المفسرين في بيان الحكمة في الفرق بين الآيتين .
يقول أبو حيان الأندلسي رحمه الله :
" قيل : وجاء في الأنفال : ( وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ) ولم يجئ هنا : (
كله )؛ لأن آية الأنفال في الكفار عموماً ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم
، ولم يحتج هنا إليه . قيل : وهذا لا يتوجه إلاَّ على قول من جعل الضمير في : (
وقاتلوهم ) ، عائداً على أهل مكة على أحد القولين " انتهى.
" البحر المحيط " (2/76)
ويقول ابن عرفة المالكي رحمه الله :
" قوله تعالى : ( وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ ) وفي الأنفال : ( وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ ) وأجاب بعضهم : بأن هذه في قتال كفار قريش ، وتلك في قتال جميع
الكفار ؛ لأن قبلها ( قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا
قَدْ سَلَفَ )، فالمراد في آية البقرة ( ويكون الدّين ) الّذي هم عليه لله ، ودينهم
بعض الدين لا كله ، بخلاف آية الأنفال " انتهى.
" تفسير ابن عرفة المالكي " (2/561) تحقيق حسن المناعي ، مركز البحوث .
ويقول الألوسي رحمه الله :
" لم يجئ هنا كلمة ( كله ) كما في آية الأنفال ؛ لأن ما هنا في مشركي العرب ، وما
هناك في الكفار عموماً ، فناسب العموم هناك ، وتركه هنا " انتهى.
" روح المعاني " (2/76)
والله أعلم .