الحمد لله.
الوجه الثاني :
تفرد به ( الحكم بن عتيبة ) عن إبراهيم التيمي ، وفيه أن الشمس تغرب في عين حامية .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : " كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ ، وَالشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا فَقَالَ : ( هَلْ
تَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ هَذِهِ ) ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ
: ( فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ ) .
رواه أحمد في " المسند " (35/363)، وأبوداود في " السنن " (رقم/4002)، وحفص الدوري
في " جزء قراءات النبي صلى الله عليه وسلم " (ص/123)، والبزار في " البحر الزخار "
(9/407)، والسراج في " حديثه " (3/258)، والحاكم في " المستدرك " (2/267) وقال : "
هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه " جميعهم من طريق يزيد بن هارون ، عن سفيان بن
حسين ، عن الحكم به .
قال البزار : " وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الحكم بن عتيبة ، عن إبراهيم ، عن أبيه
، عن أبي ذر إلا سفيان بن حسين ، وقد رواه عن إبراهيم التيمي يونس بن عبيد ،
وسليمان الأعمش ، وهارون بن سعد " انتهى.
ثانيا :
يتبين بما سبق أن اللفظ الراجح في حديث أبي ذر هو الأول الذي فيه : ( فَإِنَّهَا
تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ ) وليس فيه : ( فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي
عَيْنٍ حَامِيَةٍ )، وذلك لأدلة :
الدليل الأول :
أن هذا اللفظ هو الذي اتفق عليه أكثر الرواة وأحفظهم عن إبراهيم التيمي .
الدليل الثاني :
أن اللفظ الثاني ( في عين حامية ) تفرد بها الحكم بن عتيبة عن إبراهيم ، والحكم –
وإن كان ثقة – إلا أنه وصفه النسائي بالتدليس في " ذكر المدلسين " (رقم/11)، وقال
ابن حبان : " وكان يدلس " انتهى من " الثقات " (4/144)، ولم يذكر أحد ممن أخرج
حديثه هنا أنه صرح بالتحديث ، بل جاء عندهم جميعا روايته بالعنعنة ، وهو وإن سماه
ابن حجر في " مراتب المدلسين " في (المرتبة الثانية، ص30)، وهم " من احتمل الأئمة
تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى ، كالثوري ، أو كان
لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة " انتهى. ولكن مخالفته رواية الثقات هنا يؤكد احتمال
وقوع التدليس في هذا الحديث خاصة .
الدليل الثالث :
أن اللفظ الأول رواه كل من البخاري ومسلم ، وأما اللفظ الثاني فلم يروه الشيخان ،
وهذا ترجيح منهم لهذا اللفظ على غيره ، ولا شك أن ما في كتابي البخاري ومسلم أرجح
لدى النقاد والحفاظ مما في غيرهما من الكتب والمسانيد .
الدليل الرابع :
الفرق الكبير بين اللفظين ، فالأول ينسب إلى الشمس السجود تحت العرش – سواء وقت
الغروب أم في غيره ، على اختلاف ألفاظ الحديث - والسجود تحت العرش أمر غيبي لا يعلم
كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى ، وقد أخبر سبحانه وتعالى عن سجود جميع المخلوقات له
فقال عز وجل : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ ) الحج/18، ولا يعلم أحد عن كيفية هذا السجود ووقته وحقيقته إلا الله
سبحانه وتعالى ، وهكذا أيضا حديث أبي ذر ، لا يختلف عن الآية من قريب أو بعيد ،
وليس فيه ما يستنكر .
قال الخطابي رحمه الله :
" لا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش ، من حيث لا ندركه ولا نشاهده ، وإنما هو
خبر عن غيب ، فلا نكذب به ، ولا نكيفه ؛ لأن علمنا لا يحيط به " انتهى من " أعلام
الحديث شرح صحيح البخاري " (ص/1893)
أما اللفظ الثاني ( فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ ) فهو محل الإشكال ،
فغروب الشمس يكون باختفاء قرصها وراء الأفق ، تغرب عن قوم وتطلع على آخرين بسبب
دوران الأرض حولها ، ولا يمكن للشمس – وهي بهذا الحجم العظيم – أن تغيب في عين ماء
حامية ، وأما قوله تعالى – في قصة ذي القرنين – ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) الكهف/86، فقد قال المفسرون إن
المقصود تصوير المشهد الذي تهيأ له ، فهو قد رآها في أفق البحر كأنها تنزل فيه عند
الغروب ، ولا يخبر القرآن الكريم أن ذلك حقيقة في نفس الأمر ، لذلك قال سبحانه : (
وَجَدَهَا تَغْرُبُ ) ولم يقل ( إنها تغرب في عين حمئة ) .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ،
يراها كأنها تغرب فيه ، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه "
انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (5/191) .
فالخلاصة أن من يطعن على السنة بسبب هذا اللفظ فقد أتي من قبل جهله بتدقيق المحدثين في ألفاظ الحديث ، وعلم العلل الذي نفرق به بين الروايات الثابتة وغير الثابتة ، وإذا كان بعض العلماء قد صحح الرواية محل الإشكال ، فإنما يريدون تصحيح أصل الحديث ، وليس ترجيح هذا اللفظ على ما ثبت في الصحيحين من رواية ( تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ ).
ويكفي للرد على هذه الشبهة أن علماء الإسلام كانوا مجمعين على أن الأرض مستديرة
، وأن جميع الأفلاك مستديرة ، وبناء عليه فإن الليل والنهار يتعاقبان بسبب استدارة
هذه الأفلاك ودورانها ، وذلك ظاهر في كثير من نصوص الكتاب والسنة .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
" الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، كما ثبت
ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها ، بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير
واحد من علماء المسلمين " انتهى من " منهاج السنة النبوية " (5/442).
وهذا فكر متقدم جدا في علوم الفلك ، ولو كان ظاهر هذا الحديث يناقض ذلك لما وقع
الإجماع على خلافه ، ولكن الصواب أن الحديث لا يتعارض مع قواطع العلوم الكونية .
والله أعلم .