الحمد لله.
أولا :
سبق أن بَيّنا أن تكرار ذكر القصة الواحدة في كثير من السور من سمات القصص القرآني
، وفي كل مرة يتنوع السياق ، ويتعدد الأسلوب ، وترد القصة بعبارات جديدة ، تفتح
آفاقا للمعاني والفوائد ، وأنماطا متنوعة من أساليب البلاغة والبيان ، وينظر جواب
السؤال رقم :
(140060) .
ومن أعظم الحِكم في ذلك تأكيد التحدي لكفار العرب ذوي الفصاحة والبلاغة .
قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله :
" إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحداً من الأمر الصعب ، الذي
تظهر به الفصاحة ، وتتبين به البلاغة ، وأعيد كثير من القصص في مواضع كثيرة مختلفة
، على ترتيبات متفاوتة ، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكرراً
.
ولو كان فيهم تمكّن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدى تلك
المعاني ونحوها ، وجعلوها بإزاء ما جاء به ، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه ، وإلى
مساواته فيما حكى وجاء به " انتهى من "إعجاز القرآن" (ص: 61-62) .
ثانيا :
هذه القصة لم تتكرر وإنما حصلت مرة واحدة ، وذلك لما أتى موسى عليه السلام النار
التي آنس من جانب الطور مرجعَه من مدين ، فلما أتاها ناداه ربه .
والله عز وجل يقول في سورة النمل : ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ
فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا
مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) النمل/ 8، 9
ويقول في سورة طه : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ
فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ) طه/ 11 ، 14 .
ويقول في سورة القصص : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ
الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى
إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [القصص/ 30 .
لكن يذكر في سياق أو في سورة
ما لم يذكر في السياق الآخر ، وهذا من بدائع التكرار في القرآن الكريم ، والتي
أشرنا إلى بعضها ، ويعبر عن الموقف بأكثر من بيان ؛ وقد أوحى الله إلى عبده موسى
عليه السلام ، كل ما أخبرنا أنه ناداه وكلمه به .
قال الرازي رحمه الله :
" قال في سورة النمل ( نُودِىَ أَنا بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا )
وقال في القصص ( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) وقال في طه
( إِنِّى أَنَا رَبُّكَ ) ولا منافاة بين هذه الأشياء ؛ فهو تعالى ذكر الكل ، إلا
أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء " انتهى من "تفسير الفخر الرازي"
(ص 3491) .
وراجع للاستزادة جواب السؤال رقم : (82856)
.
والله تعالى أعلم .