الحمد لله.
أولا :
هذا الحديث لم يروه الإمام أحمد في مسنده ، وإنما رواه ابن حبان في "صحيحه" (4586)
فقال : أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي قال :
أخبرنا جرير بن عبد الحميد عن رقبة بن مصقلة عن جعفر بن إياس عن عبد الرحمن بن
مسعود عن أبي سعيد و أبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليأتين
عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منكم فلا
يكونن عريفا ولا شرطيا و لا جابيا ولا خازنا ) .
قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان : " إسناده ضعيف " .
وكذا ضعفه الشيخ مقبل الوادعي في "صحيح دلائل النبوة " (570) .
وصححه الشيخ الألباني في "الصحيحة" (360) .
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/240) :
" رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ خَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ ثِقَةٌ " .
وعبد الرحمن بن مسعود هذا ، ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/285) ولم
يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، ولم يوثقه إلا ابن حبان ، وهو معروف بالتساهل في
التوثيق ، فإنه كثيرا ما يوثق المجهولين حتى الذين يصرح هو نفسه أنه لا يدري من هو
ولا من أبوه .
انظر : "الضعيفة" (1/80) ، وأيضا : " الصحيحة " ، الطبعة الجديدة (1/2/702-703) .
وهذا الراوي روى عنه ثقتان :
جعفر بن إياس – كما في هذا الحديث - والبختري بن أبي البختري كما في "تهذيب الكمال"
(4/22) .
وقال الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/813) :
" عبد الرحمن بن مسعود اليشكري عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما وعنه
جعفر بن إياس وغيره ، وثقه ابن حبان " .
فبِرواية الثقتين عنه ترتفع عنه جهالة العين ، ثم هو من التابعين ، فعند بعض
العلماء كابن كثير وابن رجب أن من كان هذا حاله ولم يأت بما ينكر عليه فحديثه حسن ،
راجع "إرواء الغليل" (3/309) .
وله شاهد رواه الطبراني في
"المعجم الأوسط" (4190) و"الصغير" (564) والخطيب في "التاريخ" (11/577) من طريق
دَاوُد بْن سُلَيْمَانَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أُمَرَاءُ ظَلَمَةً،
وَوُزَرَاءُ فَسَقَةً، وَقَضَاةٌ خَوَنَةٌ، وَفُقَهَاءُ كَذَبَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ
مِنْكُمْ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلَا يَكُونَنَّ لَهُمْ جَابِيًا، وَلَا عَرِيفًا،
وَلَا شُرْطِيًّا ) .
قال الهيثمي في "المجمع" (5/233) :
" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ ، وَفِيهِ دَاوُدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ : لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَالَ
الْأَزْدِيُّ: ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ لَمْ أَعْرِفْهُ ،
وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ "انتهى .
وقد توبع معاوية بن الهيثم ، تابعه عبد الله بن أحمد بن شبوية عند الخطيب ، فانحصرت
العلة في داود بن سليمان .
وهذا الحديث ضعفه الألباني في "الإرواء" (8/280) .
ثانيا :
إذا وثق بعض أهل العلم بالحديث راويا ، ولم يُحك توثيقه عن غيره : فإن كان هذا
العالم معروفا بالحذق ، مشهودا له بالحفظ والعناية بالأسانيد ونقد الرجال ، ولا
يعرف عنه التساهل في التوثيق؛ فهذا يقبل قوله في توثيق الراوي ، ويؤخذ به وإن تفرد
بذلك ، مثل الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وإسحق بن راهويه
والبخاري ومسلم والنسائي وأبي داود والدارقطني وأشباههم من الحفاظ المتقنين والنقاد
الجهابذة .
وإن كان هذا العالم ممن عُرف عنه التساهل في التوثيق ، وأنه يوثق المجهولين ومن لا
يعرف ، كابن حبان والحاكم والعجلي فإنه يُتوقف في قبول توثيق من وثقه حتى توجد
قرائن تساعد على اعتماد توثيقه وقبول حديث هذا الراوي ، فإن كان معروفا بالطلب ، أو
مشهورا بالفضل ، ولم يرو ما ينكر عليه ، ولم يأت عن المشاهير الحفاظ بما ينفرد به
عن أصحابهم الملازمين لهم ، وقد ارتفعت عنه جهالة الحال برواية ثقتين عنه فأكثر ،
وخاصة إذا كان من التابعين ، فمن كان هذا حاله ، وقد وثقه بعض من عُرف بالتساهل في
التوثيق فحديثه مقبول حسن .
ثالثا : معنى الحديث :
يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه سيأتي زمان على الناس يتأمّر
عليهم فيه ويحكمهم من يقربون شرار الناس ، ممن يتابعونهم على أهوائهم ويطيعونهم
فيما يأمرونهم به ، وهم مع ذلك يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فيصلونها بعد وقتها ،
ولا يحافظون عليها كما أمر الله ورسوله .
ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء ، وينهى من أدرك هؤلاء من أصحابه ، أن
يكون لهم معينا على ما هم عليه من العصيان ، بل الواجب مجانبتهم ، وعدم الاختلاط
بهم ، والدخول عليهم ؛ لما في ذلك من الفتنة والإعانة على الإثم والعدوان .
وقد بوّب لهذا الحديث ابن حبان رحمه الله في صحيحه (10 /446) بقوله : " ذِكر
الإخبار عما يجب على المرء عند ظهور أمراء السوء من مجانبتهم في الأحوال والأسباب "
.
وقوله : ( فلا يكونن لهم
عريفا ) فالعريف : قال في "عون المعبود" (8/108) :
" هُوَ الْقَيِّمُ بِأُمُورِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ ، يَلِي
أُمُورَهُمْ وَيَتَعَرَّفُ الْأَمِيرُ مِنْهُ أَحْوَالَهُمْ " .
وقال الحافظ في "الفتح" (6/601) :
" وسمي العريف عريفا لأنه يعرّف الإمام أحوال العسكر " .
وقال أيضا (13/169) :
" وسمي بذلك لكونه يتعرف أمورهم ، حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج " انتهى .
وحال العرفاء مذموم إذا سعوا
بين الإمام والرعية بما يفسد بينهم .
روى البخاري (6056) ومسلم (105) عَنْ حُذَيْفَةَ أنه قِيلَ لَهُ : إِنَّ رَجُلًا
يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ )
.
وقوله : ( ولا شرطيا )
الشرطة معروفون ، وهم حفظة الأمن في البلاد ، الذين يجوبون الشوارع بالليل والنهار
ويتفقدون أحوال الناس ، ولكنهم في دولة الظلم يظلمون الناس ويضربونهم ويأكلون
أموالهم بغير الحق .
وقوله : ( ولا جابيا ) الجباة هم السعاة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة وجمعها
من الناس .
وهم العاملون عليها .
راجع "المجموع" (14 /92) ، "المغني" (7/317) .
وهم في دولة الظلم الذين يحصلون من الناس الضرائب والمكوس بغير الحق .
وقوله : ( ولا خازنا )
الخازن هو الذي يُخزن عنده المال ، أي : يُحفظ .
"شرح أبي داود للعيني" (6 /436) .
قال الشيخ عبد المحسن العباد
:
" الخازن : هو الذي يكون قيماً على الشيء ، ويكون مؤتمناً على حفظه ، سواء كان
الخازن مملوكاً ، أو كان مستأجراً لحفظ أي شيء ، والقيام عليه ، والإدخال فيه ،
والإخراج منه ، فيكون مسئولاً عن المال الذي يخزن " انتهى من "شرح سنن أبي داود" (9
/153) .
والخازن في دولة الظلم يكون
قيما على هذا المال المجموع بغير حقه ، فيكون الخازن مشاركا للظالم في ظلمه معينا
له عليه .
أما في دولة العدل فهو مشارك في الأجر والثواب ؛ فقد روى البخاري (2260) ومسلم
(1023) عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي
يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ ) .
فهؤلاء كلهم إنما ذم النبي
صلى الله عليه وسلم حالهم ، ونهى عنه وعن التلبس به ، إن صح هذا الحديث عنه صلى
الله عليه وسلم ، لما يقومون به من الظلم ؛ أما في حال العدل ، وظهور الخير : فهم
محمودون غير مذمومين .
قال الشوكاني رحمه الله :
" الخبر الوارد في ذم العرفاء : لا يمنع العرفاء ؛ لأنه محمول - إن ثبت - على أن
الغالب على العرفاء الاستطالة ، ومجاوزة الحد ، وترك الإنصاف ، المفضي إلى الوقوع
في المعصية " . انتهى من نيل الأوطار (8/ 9) .
وقال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله :
" وكذلك يقال في حديث (لا تكن لهم شرطياً ولا جابياً ولا عريفاً) : فهو محمول على
كون ذلك في أمور الشر والظلم التي لا تجوز ، وأما في الخير فقد دل على الجواز
الحديث " .
انتهى من "شرح سنن أبي داود" (14 /277) .
والله تعالى أعلم .