الحمد لله.
وقد جاءت الشريعة بمثل هذا الذي قلناه في جوابنا الأول ونوضحه هاهنا ، وهو قوله
صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كشف العورة خالياً قال ( اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ ) رواه الترمذي ( 2794 ) ، وأبو داود ( 4017 ) ،
وابن ماجه ( 1920 ) وحسَّنه الألباني في " صحيح الترمذي " ، وهذا تذكير للمسلم أن
رؤية الله تعالى له أحق أن يكون لها وقع على قلبه وفي حياته ، فلا يفعل المنكر
والمعصية خالياً كما لا يفعله أمام الناس ، فصارت النصيحة في هذا لا تصلح إلا لمن
فعل معصية في الخفاء والسر بعيداً عن نظر الناس حياء منهم ، فيقال له هنا ما قاله
صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : " أحيانا إذا رآك الذي يشرب
الدخان عرف أنه وقع في منكر واحترمك وأخفاه ، هل نقول : هذا يكفي عن نصيحتك إياه ؟
ربما نقول : يكفي ؛ لأن الرجل عرف أنك تنكر هذا الشيء ، ولهذا استحيا منك وأخفاه ،
وقد يقال : إنه الآن حانت الفرصة إلى أن توجهه وتقول : يا أخي ! إذا كنت الآن
تستحيي مني ، فحياؤك من الله أولى ، الله أحق أن يستحيا منه ، ويكون هذا فرصة لك
لتدعوه " انتهى من " لقاء الباب المفتوح " ( 176 / جواب السؤال رقم 20 ) .
وفي الباب أيضاً حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نرجو التأمل فيهما وفي
كلام العلماء في شرحهما ليتبين لك صحة ما ذكرناه في جوابنا الأول .
1. عَنْ سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْصِنِي ، قَالَ : ( أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ) .
رواه الإمام أحمد في " الزهد " ( 46 ) والبيهقي في " شعب الأيمان " ( 6 / 145 )
والطبراني في " المعجم الكبير " ( 7738 ) وصححه الألباني في " الصحيحة " ( 741 ) .
قال المناوي - رحمه الله - : " ( أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح
من قومك ) قال ابن جرير : هذا أبلغ موعظة وأبْين دلالة بأوجز إيجاز وأوضح بيان ؛ إذ
لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح وذوي الهيئات
والفضل ، أن يراه وهو فاعله ، والله مطلع على جميع أفعال خلقه ، فالعبد إذا استحى
من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه : تجنَّب جميع المعاصي الظاهرة والباطنة ، فيا
لها مِن وصية ما أبلغها وموعظة ما أجمعها " انتهى من " فيض القدير " ( 3 / 74 ) .
2. وعن أبي أمامة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفْشِ السَّلامَ وابْذُلِ
الطَّعامَ واسْتَحْيي مِنَ الله تعالى كما تَسْتَحِيي رَجُلاً مِنْ رَهْطِكَ ذا
هَيْئَةٍ ) .
رواه الطبرانى في " المعجم الكبير " ( 8 / 228 ، رقم 7897 ) .
ورواه البزار في " مسنده " ( 7 / 89 ، رقم 2642) بلفظ (واسْتَحْيي مِنَ الله تعالى
كما تَسْتَحِيي رَجُلاً مِنْ رَهْطِكَ ذا هَيْئَةٍ ) .
الحديثان فيهما كلام لكن يحسِّن أحدهما الآخر ، وصححه الألباني في " السلسلة
الصحيحة " ( 3559 ) .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – بعد أن ذكر حديث معاذ - : " وهذا هو
السبب الموجب لخشية الله في السر ؛ فإنَّ مَن علم أن الله يراه حيث كان ، وأنه مطلع
على باطنه وظاهره وسره وعلانيته ، واستحضر ذلك في خلواته : أوجب له ذلك ترك المعاصي
في السرّ ، وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى ( وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
) النساء/ 1.
والمقصود : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصَّى معاذاً بتقوى الله سرّاً وعلانية
أرشده إلى ما يعينه على ذلك ، وهو أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من
قومه ، ومعنى ذلك : أن يستشعر دائما بقلبه قرب الله منه ، واطلاعه عليه ، فيستحيى
من نظره إليه ، وقد امتثل معاذ ما وصَّاه به النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر
قد بعثه على عمل فقدم وليس معه شيء ، فعاتبته امرأته فقال : " كان معي ضاغط " يعني
: من يضيق عليَّ ويمنعني من أخذ شيء وإنما أراد معاذ ربَّه عز وجل ، فظنَّت امرأته
أن عمر بعث معه رقيباً فقامت تشكوه إلى الناس ، ومن صار له هذا المقام حالاً دائماً
أو غالباً ، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ، ومن المحسنين الذين
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " انتهى من " جامع العلوم والحِكَم " ( ص
161 - 163 ) .
وانظر جواب السؤال رقم (
106249 ) فهو مهم ، وفي الباب نفسه .
والله أعلم