ورد حديث في صحيح مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" . فهل المقصود بهذا الحديث الأمراء المسلمين أم الكافرين ؟ أم أن المقصود به أئمة المساجد دون غيرهم ؟ وهل يمكن تنزيل هذا الحديث على واقعنا المعاصر حيث يتم في بعض البلدان ، من ضمنها بلدنا (المالديف) ، تأخير صلاة الجمعة الى وقت معين؟ وهل تجوز الصلاة خلف أئمة يتم تعيينهم من قبل الحكومات والذين لا يقومون بنشر تعاليم الإسلام الحنيف وإنما بدلاً من ذلك يقومون بالترويج للديمقراطية والعلمانية ؟ وهل يجب علينا معرفة تفاصيل ما إذا كان الإمام الذي نقتدي به في الصلاة ممن يمارس الديمقراطية أم لا ؟
الحمد لله.
أولاً :
أخرج مسلم في صحيحه (648) عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ؟ - أو - يميتون الصلاة عن وقتها؟ )
قال: قلت : فما تأمرني؟
قال : ( صل الصلاة لوقتها ، فإن أدركتها معهم ، فصل ، فإنها لك نافلة ) .
وفي لفظ آخر لمسلم أيضا عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا ذر إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة ، فصل الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك ) .
فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي من بعده أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها الاختياري , ويصلونها في وقتها الضروري.
قال المناوي : " وفيه علم من أعلام النبوة من الإخبار بالشيء قبل وقوعه , وقد وقع أشد من ذلك في زمن الحجاج وغيره " انتهى من "فيض القدير" (4/100) .
وجاء في " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (2 / 531) : " وقد وقع في زمن بني أمية فكان معجزة " انتهى.
وقد اختلف العلماء في تأخير هؤلاء الأمراء للصلاة هل هو تأخير لها حتى يخرج وقتها الاختياري ثم يصلونها في الوقت الضروري كما رجحه النووي , أم هو تأخيرها حتى يخرج وقتها بالكلية كما رجحه ابن تيمية رحمه الله .
قال النووي – رحمه الله – في شرح هذا الحديث: " معنى يميتون الصلاة يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه ، والمراد بتأخيرها عن وقتها أي عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها ، فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار , ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها ، فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع " انتهى من "شرح النووي على مسلم" (5 / 147).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – " وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتالهم , فإن قيل: إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت فلا كلام , وإن قيل - وهو الصحيح - إنهم كانوا يفوتونها فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بالصلاة في الوقت ، وقال: اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ونهى عن قتالهم كما نهى عن قتال الأئمة إذ استأثروا وظلموا الناس حقوقهم واعتدوا عليهم" . انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/61).
وفي "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/308): " ظاهر الحديث إخراج الصلاة وتأخيرها عن جميع وقتها، وعليه حمله النسائي.
وقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، فينبغي أن يحمل هذا الحديث على الواقع .
قال الحافظ في " فتح الباري " (2/14) : " قد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة " انتهى .
ثانياً :
المقصود بالأمراء في هذا الحديث هم أمراء المسلمين - أي حكامهم – كالحجاج بن يوسف والوليد بن عقبة وغيرهما .
جاء في "فتح الباري" لابن رجب (4 / 183) : " وقد كان الصحابة يأمرون بذلك ويفعلونه عند ظهور تأخير بني أمية للصلاة عن أوقاتها ، وكذلك أعيان التابعين ومن بعدهم من أئمة العلماء ..... وقد روى الشافعي بإسناده عن ابن عمر أنه أنكر على الحجاج إسفاره بالفجر، وصلى معه يومئذ.
وقد قال النخعي: كان ابن مسعود يصلي مع الأمراء في زمن عثمان وهم يؤخرون بعض التأخير، ويرى أنهم يتحملون ذلك .
وإنما كان يفعل ذلك في أيام إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة في زمن عثمان ، فإنه كان أحيانا يؤخر الصلاة عن أول وقتها " انتهى.
وهذا الفعل من هؤلاء الأمراء يعتبر من الفسق ؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها الاختياري بغير عذر لا يجوز .
قال الماوردي رحمه الله " من ائتم بفاسق لم يُعِد وأجزأته صلاته، إذا لم يخرج نفسه من الملة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سيأتي من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سنة " فلما جوز الصلاة خلفه ومؤخر الصلاة عمدا فاسق ، دل على صحة إمامته وجواز الائتمام به " .
انتهى من "الحاوي الكبير" (2 / 353).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولهذا نص من نص من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلى خلف الفساق ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها . وهؤلاء الأئمة فساق ، وقد أمر بفعلها خلفهم نافلة ، والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء" .
انتهى من"الفتاوى الكبرى" (2/39).
ولكن لا يمنع هذا الفسق من الائتمام بهم والصلاة خلفهم بنية النافلة , طالما لم يأتوا بناقض من نواقض الإسلام , لأن ترك الصلاة خلف الأمراء – وإن فسقوا – مما يهيج الفتنة , ويفرِّق الكلمة , ويشق الصف.
وقد سبق الكلام مفصلا عن حكم الصلاة خلف الفاسق فليراجع في الفتوى رقم: (47884).
ثالثاً :
أما عن وقت صلاة الجمعة فهو وقت صلاة الظهر عند جماهير أهل العلم من السلف والخلف ، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال : (114859) .
ولكن إذا وجدت حاجة أو مصلحة تدعو إلى تأخيرها ، فلا بأس بذلك ، كما لو كان الناس في أعمالهم ولا يستطيعون الذهاب لصلاة الجمعة في أول وقتها ، بشرط أن يتم الفراغ من الصلاة قبل دخول وقت العصر , وقد بينا ذلك في الفتوى رقم : (145262).
وعليه فإن أخر الإمام صلاة الجمعة بحيث لا يخرج وقتها فالواجب انتظاره لأن الجمعة لا تتم إلا بالإمام والخطبة والجماعة.
رابعاً:
وأما عن الصلاة خلف من يدعو إلى الديمقراطية والعلمانية :
فإن كانوا يدعو إلى تنحية الشريعة ، وترك تحكيم شرع الله في الواقع ، وفصل الدين عن حياة الناس ، فهذا لا يصلَّى خلفه .
وإن كان المقصود أنه يدعو للانتخابات واستعمال صناديق الاقتراع ، فهذا فيه تفصيل في حكمه ، ولا تترك الصلاة خلفه .
ثم إن الأصل الصلاة خلف من ظاهره الإسلام من غير تفتيش عن حاله ، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الصلاة خلف المرازقة وعن بدعتهم.
فأجاب: " يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمُعَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً وَلَا فِسْقًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إمَامِهِ وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَهُ فَيَقُولُ: مَاذَا تَعْتَقِدُ؟ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ مَسْتُورِ الْحَالِ " . انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/351).
والله أعلم.