الحمد لله.
وهذا الحديث اختلف فيه أهل
العلم ، وعامتهم على تضعيفه وعدم ثبوته ومخالفته لما هو أصح منه ، وحجة من صححه أنه
من رواية ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة ، وصالح كان قد خرف واختلط ، وسماع من
أخذ عنه قبل الاختلاط صحيح ، وكان ابن أبي ذئب ممن سمع منه قبل الاختلاط ، قال ابن
معين : ثقة حجة ، فقيل له : إن مالكا ترك السماع منه ، فقال : إن مالكا إنما أدركه
بعد أن كبر وخرف ، والثوري إنما أدركه بعدما خرف وسمع منه أحاديث منكرات ، ولكن ابن
أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف ، وقال الجوزجاني : تغير أخيرا فحديث ابن أبي ذئب عنه
مقبول لسنه وسماعه القديم ، وقال ابن عدي : لا بأس به إذا روى عنه القدماء مثل ابن
أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد ، ومن سمع منه بآخره وهو مختلط - يعني فهو ضعيف.
"تهذيب التهذيب" (4/ 406)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ ،
وَسَمَاعُهُ مِنْهُ قَدِيمٌ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَاطُهُ
مُوجِبًا لِرَدِّ مَا حَدَّثَ بِهِ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ " انتهى من "زاد المعاد"
(1/ 482).
وحجة من ضعفه أن ابن أبي ذئب وإن كان من قدماء أصحابه ، إلا أنه روى عنه أيضا
منكرات . قال الإمام أحمد : سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيرا ، وروى عنه منكرا .
"تهذيب التهذيب" (4/ 406)
وقال البخاري :
سَمَاعُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ مِنْهُ أَخِيرًا ، يُرْوَى عَنْهُ مَنَاكِيرُ.
"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 320) .
وقال ابن حبان :
" روى عَنْهُ ابن أَبِي ذِئْب وَالنَّاس ، تغير فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة ،
وَجعل يَأْتِي بالأشياء ألتي تشبه الموضوعات عَن الْأَئِمَّة الثِّقَات ، فاختلط
حَدِيثه الْأَخير بحَديثه الْقَدِيم وَلَمْ يتَمَيَّز ، فَاسْتحقَّ التّرْك ...
وقال ابن معين : صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ قَدْ كَانَ خَرِفَ قَبْلَ أَنْ
يَمُوتَ فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ فَهُوَ ثَبْتٌ ، قَالَ ابن
حبان : هَذَا الَّذِي قَالَه أَبُو زَكَرِيَّا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ هُوَ
كَذَلِكَ لَو تميز حَدِيثه الْقَدِيم من حَدِيثه الْأَخير ، فَأَما عِنْدَ عدم
التَّمْيِيز لِذَلِكَ ، واختلاط الْبَعْض بِالْبَعْضِ ، يرْتَفع بِهِ عَدَالَة
الإِنْسَان حَتَّى يصير غَيْر مُحْتَج بِهِ وَلَا مُعْتَبر بِمَا يرويهِ " .
"المجروحين" (1/ 366) .
وقد روى مسلم (973) أَنَّ
عَائِشَةَ رضي الله عنها : "أَمَرَتْ أَنْ يَمُرَّ بِجَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ
عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ ! مَا صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ
إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ ) .
قال النووي رحمه الله :
" فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ فِي جَوَاز
الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد , وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد
وَإِسْحَاق , وَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك عَلَى
الْمَشْهُور عَنْهُ : لَا تَصِحّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد بِحَدِيثِ فِي
سُنَن أَبِي دَاوُدَ ( مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ
) وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور حَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء , وَأَجَابُوا
عَنْ حَدِيث سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِأَجْوِبَةٍ :
أَحَدهَا : أَنَّهُ ضَعِيف لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ , قَالَ أَحْمَد بْن
حَنْبَل : هَذَا حَدِيث ضَعِيف تَفَرَّدَ بِهِ صَالِح مَوْلَى التَّوْأَمَة ,
وَهُوَ ضَعِيف .
وَالثَّانِي : أَنَّ الَّذِي فِي النُّسَخ الْمَشْهُورَة الْمُحَقَّقَة
الْمَسْمُوعَة مِنْ سُنَن أَبِي دَاوُدَ " وَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي
الْمَسْجِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ " وَلَا حُجَّة لَهُمْ حِينَئِذٍ فِيهِ .
الثَّالِث : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيث وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ : " فَلَا شَيْء
له" لَوَجَبَ تَأْوِيله عَلَى " فَلَا شَيْء عَلَيْهِ " لِيَجْمَع بَيْن
الرِّوَايَتَيْنِ وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث وَحَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء , وَقَدْ
جَاءَ ( لَهُ ) بِمَعْنَى ( عَلَيْهِ ) , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا .
الرَّابِع : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى نَقْص الْأَجْر فِي حَقّ مَنْ صَلَّى فِي
الْمَسْجِد وَرَجَعَ وَلَمْ يُشَيِّعهَا إِلَى الْمَقْبَرَة لِمَا فَاتَهُ مِنْ
تَشْيِيعه إِلَى الْمَقْبَرَة وَحُضُور دَفْنه . وَاللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى من
"شرح مسلم "(7/40) .
وقال الخطابي رحمه الله معالم السنن (1/ 312) :
" صالح مولى التوأمة ضعفوه وكان قد نسي حديثه في آخر عمره ، وقد ثبت أن أبا بكر
وعمر رضي الله عنهما صُلي عليهما في المسجد ، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار
شهدوا الصلاة عليهما ، ففي تركهم إنكاره دليل على جوازه " انتهى .
وكان ممن ضعفه من العلماء :
الإمام أحمد – كما في مسائل ابنه عبد الله (ص 142) - وابن المنذر في "الأوسط" (5/
416) ، والخطابي في " معالم السنن" (1/ 312) والبيهقي كما في "سننه" (4/86) وابن
حزم في "المحلى" (3/ 391) ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 414) ، وإسماعيل
بن إسحاق – كما في "شرح صحيح البخارى" لابن بطال (3/ 311) - ،
، وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/ 366): " هَذَا خَبَرٌ بَاطِلٌ " .
وممن حسنه : ابن القيم في
"زاد المعاد" (1/ 482) وصححه الألباني في "الصحيحة" (2351) ثم تراجع عن تصحيحه
وضعفه في "الثمر المستطاب" (ص: 768) حيث قال بعد أن حكى كلام ابن القيم المتقدم في
الاحتجاج برواية ابن أبي ذئب خاصة عن صالح :
" وهذا هو الحق لو أن ابن أبي ذئب لم يسمع منه بعد ذلك ؛ وليس كذلك ؛ فقد قال
الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل قال: سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيرا ، وروى عنه
منكرا ، حكاه ابن القطان عن الترمذي هكذا .
قلت: وفي هذا بيان لسبب تضعيف أحمد للحديث ، وهو أنه روى ابن أبي ذئب عنه بعد
الاختلاط أيضا ، ولعله عمدة ابن حبان في قوله في كتاب الضعفاء : " اختلط بآخره ولم
يتميز حديث حديثه من قديمه فاستحق الترك" ، ثم ذكر له هذا الحديث وقال:
إنه باطل ، وكيف يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى على سهيل بن بيضاء في
المسجد؟
فتبين بهذا علة الحديث وأنه ضعيف ، فلا يقاوم حديث عائشة الصحيح .
فالحق : أن إدخال الجنازة إلى المسجد والصلاة فيه جائز بدون كراهة ، لكن لم يكن ذلك
من عادته عليه الصلاة والسلام ، بل الغالب عليه الصلاة عليها خارج المسجد فهو أولى
" انتهى .
وينظر جواب السؤال رقم : (106423)
.
والله أعلم