الحمد لله.
وينظر قصة أخرى في : "سيرة ابن هشام" (2/ 220) ، "سير أعلام النبلاء" (1/ 348) ، "البداية والنهاية" (5/210) .
ثالثا :
كيف يكذب الخلاق العليم العزيز الحكيم ؟! وما الذي يحمله على الكذب ويحوجه إليه ؟!
ومن أبر من الله ، وأولى بالصدق منه جل جلاله ؟! (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثًا) ؛ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) ؟!
لقد كان أولى ما يظهر فيه نقص القول ، وتفاوته واضطرابه : هو كتابه الذي تحدى به
الكفار : أن يأتوا بمثله ، أو بشيء منه ، أو أن يجدوا فيه تفاوتا ، أو تناقضا ؛ قال
تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء/ 82 ، قال الطبري رحمه
الله :
" يعني : أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة
الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم،
لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض
بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان
بعضه عن فساد بعض " انتهى من "تفسير الطبري" (8/ 567) .
فكل ما أخبر به من الصدق ، وكل ما جاء به من الحق ، ولم يستطع المعارضون له
المخالفون لأمره أن يعثروا على قول يناقض قول ، أو خبر يخالف الحس والواقع ، بل كل
ما جاء به جاء ما يدل على صدقه بالبرهان المبين والحجة البالغة .
ثم تأمل يا عبد الله ؛ هذا
الحديث ، لتعلم أن القادر ، المالك : أبعد ما يكون عن الكذب :
روى مسلم (107) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ
زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وذلك لأن الملك لا يحتاج أن يكذب ، كلمته هي العليا بين الناس ، فلا حاجة إلى أن
يكذب ، فإذا كذب صار يعدُ الناس ولكن لا يوفي ، يقول سأفعل كذا ولكن لا يفعل ،
سأترك كذا ولكن لا يترك ، ويحدث الناس يلعب بعقولهم ويكذب عليهم ، فهذا والعياذ
بالله داخل في هذا الوعيد ، لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله
عذاب أليم .
والكذب حرامٌ من الملك وغير الملك ، لكنه من الملك أعظم وأشد ؛ لأنه لا حاجة إلى أن
يكذب ، كلمته بين الناس هي العليا فيجب عليه أن يكون صريحاً، إذا كان يريد الشيء ،
يقول نعم ، يوافق عليه ويفعل ، وإذا كان لا يريده ، يقول لا ، يرفضه ولا يفعل ،
الواحد من الرعية قد يحتاج إلى الكذب فيكذب، ولكن الملك لا يحتاج " انتهى من "شرح
رياض الصالحين" (3/ 551) .
ثالثا :
من الأدلة العقلية على أن الله تعالى لم يلد : أنه لا صاحبة له ، ومعلوم لدى كل ذي
عقل أن الإنسان يلد إنسانا ، وأن البهيمة تدل بهيمة ، وأن الطائر يلد طائرا ،
فالمولود يتولد من شيئين متناسبين ، فلا بد للمولود من أب وأم متناسبين .
قال تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
) الأنعام/ 101 .
قال الطبري رحمه الله :
" الولد إنما يكون من الذكر والأنثى ، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة ، فيكون
له ولد ، وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء ، يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه ،
فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد؟ " .
انتهى من "تفسير الطبري" (11/ 11).
وقال ابن كثير رحمه الله :
" أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟ أَيْ:
وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا عَنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ ،
وَاللَّهُ لَا يُنَاسِبُهُ وَلَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ ؛ لِأَنَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ " انتهى من "تفسير ابن
كثير" (3/ 308) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
" مَنْ يُصْمَدُ إِلَيْهِ : لَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَلِدَ لِأَنَّ طَلَبَ
الْوَلَدِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي إِقَامَة شؤون الْوَالِدِ وَتَدَارُكِ
عَجْزِهِ ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ : اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَداً ، بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْغَنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( قالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ) يُونُس/ 68 ، فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى
مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ،
أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعَدُّدَ الْإِلَهِ بِطَرِيقِ تَوَلُّدِ إِلَهٍ عَنْ
إِلَهٍ ، لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مُسَاوٍ لِمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ.
وَالتَّعَدُّدُ بِالتَّوَلُّدِ : مُسَاوٍ فِي الِاسْتِحَالَةِ لِتَعَدُّدِ
الْإِلَهِ بِالْأَصَالَةِ ، لِتَسَاوِي مَا يَلْزَمُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي
كِلَيْهِمَا مِنْ فَسَادِ الْأَكْوَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ) الْأَنْبِيَاء/ 22 وَهُوَ
بُرْهَانُ التَّمَانُعِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنِ اللَّهِ مَوْجُودٌ آخَرُ
لَلَزِمَ انْفِصَالُ جُزْءٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُنَافٍ
لِلْأَحَدِيَّةِ ، لِأَن البنوّة لِلْإِلَهِ تَقْتَضِي إِلَهِيَّةَ الِابْنِ "
انتهى من "التحرير والتنوير" (30/ 618) .
رابعا :
أما كونه سبحانه لم يولد ، فمعلوم بالاضطرار أيضا ؛ لأنه لو كان له والد : لكان هذا
الوالد إلها عظيما ، ولكان أولى من ولده بتدبير الملكوت ، وتسيير الأمور ، وهذا شأن
الملك في الناس كلهم : أن الولد يرث الملك عن أبيه .
قال أبو سعيد الصنعاني رحمه الله :
" ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله جلّ ثناؤه لا يموت
ولا يورث " انتهى من "تفسير الطبري" (24/ 691) .
ولأنا لو أثبتنا له الوالد لنسبناه ، إلى العدم قبل أن يولد ، وهذا محال ؛ فإن من
خلق من العدم : لا يكون إلها ، بل يكون الذي خلقه هو الإله ، وهنا يرد عليه نفس
السؤال ، حتى ينتهي الأمر إلى السفسطة المحضة ، أو إبطال وجود الإله الخالق من أصله
، وقد تكلمنا عن هذا الفرض سابقا .
قال ابن عاشور رحمه الله :
" مَنْ يَكُونُ مَوْلُودًا مِثْلَ عِيسَى لَا يَكُونُ إِلَهًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ الْإِلَهُ مَوْلُودًا لَكَانَ وُجُودُهُ مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ لَا مَحَالَةَ ،
وَذَلِكَ مُحَالٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ لَكَانَ مُفْتَقِرًا
إِلَى مَنْ يُخَصِّصُهُ بِالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ
جُمْلَةِ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَالِدًا
لِمَوْلُودٍ ، أَوْ مَوْلُودًا مِنْ وَالِدٍ بِالصَّرَاحَةِ. وَبَطَلَتْ
إِلَهِيَّةُ كُلِّ مَوْلُودٍ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، فَبَطَلَتِ الْعَقَائِدُ
الْمَبْنِيَّةُ عَلَى تَوَلُّدِ الْإِلَهِ " .
انتهى من"التحرير والتنوير" (30/ 619) .
راجع للاستزادة جواب السؤال رقم : (5105)
، (175339) .
خامسا :
الذي ننصحك به ألا تشغل نفسك بشبهات الملاحدة وأباطيلهم ، فليس عليك من شأنهم شيء ،
وإنما حوراهم والرد على شبهاتهم : للمتخصصين ، العارفين بمآخذ القول ، وكيفية الرد
والنقاش والجدال .
وعليك بتلاوة القرآن وتدبره ، وصحبة أهل الخير ، الذين يحرصون عليه ، ويدعون إليه ،
وهذه الصحبة من أعظم ما يثبت به الله عبده على دينه ، ويصرف عنه به السوء .
وينظر جواب السؤال رقم : (92781)
.
والله تعالى أعلم .