الحمد لله.
إذا ثبت أن المرأة فعلاً قد وقعت في معصية مع هذا الرجل ، فإن كانت غير مشتهرة بهذا
الأمر وإنما زلة وقعت فيها ، فالأفضل الستر عليها وعدم رفع أمرها لجهة الاختصاص ،
مع نصحها وتذكيرها ودعوتها وإرشادها وبيان خطورة ما أقدمت عليه وما يترتب عليه من
مفاسد ، فإن أنابت وندمت واستغفرت ووعدت بعدم الرجوع إلى مثل ذلك استحب الستر عليها
.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ
نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ
كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ
اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ
الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ ). رواه مسلم ( 2699 ) .
أما إذا كانت هذه المرأة معروفة بالشر والفساد ، مع إصرارها على ما هي عليه ، ولم
تظهر توبة ولا ندما، فلا شك أن رفع أمرها إلى جهة الاختصاص أولى ، بل قد يكون
واجباً لأجل تأديبها والأخذ على يدها حتى لا تفكر بالعودة لمثله أبداً .
قال ابن رجب رحمه الله بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على ستر صاحب المعصية
وعدم فضحه :
واعلم أنَّ النَّاس على ضربين :
أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوةٌ ، أو
زلَّةٌ ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها ، ولا هتكُها ، ولا التَّحدُّث بها ؛ لأنَّ ذلك
غيبةٌ محرَّمة ، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوصُ ، وفي ذلك قد قال الله تعالى: (
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ).
والمراد: إشاعةُ الفَاحِشَةِ على المؤمن المستتر فيما وقع منه ، أو اتُّهِمَ به وهو
بريء منه ، كما في قصَّة الإفك .
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرُ بالمعروف : اجتهد أن تستُرَ العُصَاةَ ،
فإنَّ ظهورَ معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب ، ومثل هذا لو
جاء تائباً نادماً، وأقرَّ بحدٍّ ، ولم يفسِّرْهُ ، لم يُستفسر، بل يُؤمَر بأنْ
يرجع ويستُر نفسه ، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية ،
وكما لم يُستفسر الذي قال : ( أصبتُ حدّاً، فأقمه عليَّ ).
ومثلُ هذا لو أخذَ بجريمته ، ولم يبلغِ الإمامَ، فإنَّه يُشفع له حتّى لا يبلغ
الإمام .
وفي مثله جاء الحديثُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أقيلوا ذوي الهيئات
عثراتهم ) . خرَّجه أبو داود والنَّسائي مِن حديث عائشة .
والثاني : من كان مشتهراً بالمعاصي ، معلناً بها لا يُبالي بما ارتكبَ منها، ولا
بما قيل له ، فهذا هو الفاجرُ المُعلِنُ ، وليس له غيبة ، كما نصَّ على ذلك الحسنُ
البصريُّ وغيره ، ومثلُ هذا لا بأس بالبحث عن أمره ، لِتُقامَ عليه الحدودُ ، صرَّح
بذلك بعضُ أصحابنا، واستدلَّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( واغدُ يا
أُنيس على امرأةِ هذا ، فإنِ اعترفت ، فارجُمها ). ومثلُ هذا لا يُشفَعُ له إذا
أُخِذَ ، ولو لم يبلغِ السُّلطان ، بل يُترك حتّى يُقامَ عليه الحدُّ لينكفَّ شرُّه
، ويرتدعَ به أمثالُه .
قال مالك : من لم يُعْرَفْ منه أذى للناس ، وإنَّما كانت منه زلَّةٌ ، فلا بأس أنْ
يُشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ أو فسادٍ ، فلا أحبُّ أنْ
يشفعَ له أحدٌ ، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحدُّ ، حكاه ابن المنذر وغيره..."
انتهى من "جامع العلوم والحكم"(1/341).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله : " والمراد بالستر: هو إخفاء العيب ، ولكن الستر لا يكون محمودا إلا إذا كان
فيه مصلحة ولم يتضمن مفسده ، فمثلاً : المجرم ؛ إذا أجرم : لا نستر عليه إذا كان
معروفاً بالشر والفساد ، ولكن الرجل الذي يكون مستقيماً في ظاهره ، ثم فعل ما لا
يحل فهنا قد يكون الستر مطلوباً ؛ فالستر ينظر فيه إلى المصلحة ، فالإنسان المعروف
بالشر والفساد لا ينبغي ستره ، والإنسان المستقيم في ظاهره ، ولكن جرى منه ما جرى :
هذا هو الذي يسن ستره " انتهى من شرح "الأربعين النووية"(1/172) .
والله أعلم .