حكم من يعاني اضطرابا في الشخصية ويحصل له عدم إدراك أحيانا
هل القلم مرفوع عن شخص يعاني من اضطراب الشخصية المرتابة ، وبسبب الاكتئاب الشديد والأعراض الذهانية التي نتجت عن تفاقم حالته الصحية أصبح انطوائياً ، ولا يدري أو يفهم ما يحدث من حوله ، هل يأخذ هذا الشخص حكم المجنون ؟
مع العلم بأنّ هذا الشخص يؤدي الصلاة في المسجد ، ولكن بسبب سوء حالته أصبح يصلي في البيت ، وإذا كان يدخل في حكم المجنون فهل يقبل الله منه الصلاة والدعاء والعمل الصالح ؟
الجواب
الحمد لله.
قياس القدرات العقلية للمريض النفسي أو لمن يعاني من أية اضطرابات نفسية ليس مرجعه
إلى المفتي أو الفقيه ، بل مرجعه إلى أطباء النفس المختصين الذين يملكون أدوات
القياس ، بعد تشخيص الحالة وإجراء الاختبارات اللازمة لفهمها .
فالاكتئاب نفسه أنواع ودرجات ، والانطوائية أحد مظاهر المرض ، وليست هي المرض نفسه
، فقد ينطوي العاقل على نفسه ، وقد ينطوي المجنون على نفسه ؛ ولهذا كله فليس من
الصواب أن تجزم الفتوى الحكم على إنسان بالعقل أو الجنون من خلال بضع كلمات كتبت في
السؤال ، بل لا بد من عرض المريض على الطبيب ، بل يمكن عرضه على لجنة من الأطباء
لتقدير حالته ، ولكتابة التقرير الطبي الذي يصف ما يعاني منه ، وهذا التقرير تنبني
عليه أمور كثيرة في تحديد أهلية الوجوب والأداء ، والمسؤولية التكليفية والشرعية
المترتبة عليه ، سواء في القوانين الشرعية أم في القوانين الوضعية ، خاصة في
الإنسان الذي يشتبه أمره على من حوله ، حيث يستشعرون منه بعض التعقل ، وفي الوقت
نفسه لا يلمسون منه فهم خطابهم ولا مجريات الأمور حولهم ، وهذا ما يسمى في الفقه بـ
" المعتوه ".
يقول السمعاني رحمه الله :
" العته نوع جنون ، إلا أنه يعقل قليلا " انتهى من " قواطع الأدلة في الأصول " (2/
389) .
ويقول عبد العزيز البخاري الحنفي رحمه الله :
" العته آفة توجب خللا في العقل ، فيصير صاحبه مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام
العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، وكذا سائر أموره .
فكما أن الجنون يشبه أول أحوال الصبا في عدم العقل ، يشبه العتهُ آخرَ أحوال الصبا
في وجود أصل العقل ، مع تمكن خلل فيه ....
فيوضع عن المعتوه الخطاب ، كما يوضع عن الصبي ، فلا يجب عليه العبادات ، ولا يثبت
في حقه العقوبات ، كما في حق الصبي ، وهو اختيار عامة المتأخرين " .
انتهى من " كشف الأسرار شرح أصول البزدوي " (4/274)
ويقول الدكتور عبدالكريم النملة رحمه الله :
" يوجد بين المجنون والمعتوه فروق إليك أهمها :
الفرق الأول : أن المعتوه له عقل ، ولكنه ضعيف عن إدراك وفهم الخطاب . أما المجنون
فإنه لا عقل له .
الفرق الثاني : أن المعتوه قد يكون مميزا ، وقد يكون غير مميز ، بخلاف المجنون ،
فلا يكون مميزا أبداً .
الفرق الثالث : المعتوه لا يصاحبه تهيج واضطراب ، بخلاف المجنون فقد يصاحبه تهيج
واضطراب .
فالمعتوه غير مكلَّف مطلقا ، وهو مذهب الجمهور ، وهو الصحيح ؛ قياسا على المجنون ،
وعلى الصبي غير المميز ، والجامع : ضعف العقل عن إدراك حقائق الأمور ، وعن فهم
خطابات الشارع على ما هي عليه " انتهى من " المهذب في أصول الفقه المقارن " (1/335)
.
وقد سبق في الفتوى رقم : (214189) بيان
تفصيل ضابط المكلف من غير المكلف لمن أصابته آفة الجنون أو العته ، يمكن الإفادة
منها هناك .
فإن أدى فاقد الإدراك – سواء كان معتوها أو مجنونا – العبادات : فإننا نرجو أن يكتب
الله عز وجل له أجرها ، ويثيبه عليها ، كما تصح عبادة الصبي ويؤجر عليها ، بل صحح
كثير من العلماء حج المجنون مثلا ، ونصوا على ثوابه ، وإن لم يجزئ عنه ، وكرم الله
واسع ، وباب ثوابه وأجره لا ينفد .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي :
" هناك رجل ضعيف العقل ، ولكنه ليس مجنونا ، إلا أنه لا يستطيع التمييز بين أشياء
كثيرة ، فهو لا يستطيع العد من الواحد إلى العشرة مثلا مهما حاولنا معه ، هل يجب
على مثل هذا الرجل الصيام والصلاة وضبطها عليه ، حيث إنه يكلف ببعض الأعمال ، مما
يؤدي إلى عطشه ، كالرعي ؟
فأجاب بقوله :
إذا كان يعقل أن الله أوجب عليه الصوم والصلاة ، يفهم أنه خلق ليعبد الله ، ويميز
فيما يتعلق بماله في ضبط ماله والتصرفات في ماله ، فهذا من العقلاء ، يلزمه أن يؤدي
ما أوجبه الله عليه من صلاة وغيرها .
أما إن كان عقله قد اختل ، وتبين خلل عقله ، وأنه من جملة المعتوهين الذين ليس لهم
عقل يميزون به بين الحق والباطل ، أو بين الخير والشر ، وبين ماله ومال غيره ، ونحو
ذلك ، فالعاقل بيِّنٌ ، إن كان عاقلا فعليه التكاليف ، وإن كان غير عاقل سقطت عنه ؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ،
وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصغير حتى يبلغ ) .
فالذي يشبه المجنون ، بعدم ضبطه للأمور ، وعدم حسن التصرف لأن عقله مفقود ، فلا
تكليف عليه " انتهى من " فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر " (6/ 14) .
والخلاصة :
أن المصاب باضطراب الشخصية إذا شخَّص الطبيب حالته بأنه لا قدرة لديه على الإدراك
وتمييز الأمور ، فلم يعد يفهم الخير من الشر ، والصواب من الخطأ ، فمثلُه رُفع عنه
القلم حتى يشفى مما هو فيه ، قال عليه الصلاة والسلام : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ
ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى
يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ ) رواه أبوداود في " السنن "
(رقم/4403) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
والفحص الطبي هو الأقدر على تحديد هذا الأمر في إنسان معين ، ولا يكفي السؤال عبر
الإنترنت .
والله أعلم .