الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024
العربية

حكم من يعاني اضطرابا في الشخصية ويحصل له عدم إدراك أحيانا

216514

تاريخ النشر : 30-08-2014

المشاهدات : 48370

السؤال


هل القلم مرفوع عن شخص يعاني من اضطراب الشخصية المرتابة ، وبسبب الاكتئاب الشديد والأعراض الذهانية التي نتجت عن تفاقم حالته الصحية أصبح انطوائياً ، ولا يدري أو يفهم ما يحدث من حوله ، هل يأخذ هذا الشخص حكم المجنون ؟ مع العلم بأنّ هذا الشخص يؤدي الصلاة في المسجد ، ولكن بسبب سوء حالته أصبح يصلي في البيت ، وإذا كان يدخل في حكم المجنون فهل يقبل الله منه الصلاة والدعاء والعمل الصالح ؟

الجواب

الحمد لله.


قياس القدرات العقلية للمريض النفسي أو لمن يعاني من أية اضطرابات نفسية ليس مرجعه إلى المفتي أو الفقيه ، بل مرجعه إلى أطباء النفس المختصين الذين يملكون أدوات القياس ، بعد تشخيص الحالة وإجراء الاختبارات اللازمة لفهمها .
فالاكتئاب نفسه أنواع ودرجات ، والانطوائية أحد مظاهر المرض ، وليست هي المرض نفسه ، فقد ينطوي العاقل على نفسه ، وقد ينطوي المجنون على نفسه ؛ ولهذا كله فليس من الصواب أن تجزم الفتوى الحكم على إنسان بالعقل أو الجنون من خلال بضع كلمات كتبت في السؤال ، بل لا بد من عرض المريض على الطبيب ، بل يمكن عرضه على لجنة من الأطباء لتقدير حالته ، ولكتابة التقرير الطبي الذي يصف ما يعاني منه ، وهذا التقرير تنبني عليه أمور كثيرة في تحديد أهلية الوجوب والأداء ، والمسؤولية التكليفية والشرعية المترتبة عليه ، سواء في القوانين الشرعية أم في القوانين الوضعية ، خاصة في الإنسان الذي يشتبه أمره على من حوله ، حيث يستشعرون منه بعض التعقل ، وفي الوقت نفسه لا يلمسون منه فهم خطابهم ولا مجريات الأمور حولهم ، وهذا ما يسمى في الفقه بـ " المعتوه ".
يقول السمعاني رحمه الله :
" العته نوع جنون ، إلا أنه يعقل قليلا " انتهى من " قواطع الأدلة في الأصول " (2/ 389) .
ويقول عبد العزيز البخاري الحنفي رحمه الله :
" العته آفة توجب خللا في العقل ، فيصير صاحبه مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، وكذا سائر أموره .
فكما أن الجنون يشبه أول أحوال الصبا في عدم العقل ، يشبه العتهُ آخرَ أحوال الصبا في وجود أصل العقل ، مع تمكن خلل فيه ....
فيوضع عن المعتوه الخطاب ، كما يوضع عن الصبي ، فلا يجب عليه العبادات ، ولا يثبت في حقه العقوبات ، كما في حق الصبي ، وهو اختيار عامة المتأخرين " .
انتهى من " كشف الأسرار شرح أصول البزدوي " (4/274)
ويقول الدكتور عبدالكريم النملة رحمه الله :
" يوجد بين المجنون والمعتوه فروق إليك أهمها :
الفرق الأول : أن المعتوه له عقل ، ولكنه ضعيف عن إدراك وفهم الخطاب . أما المجنون فإنه لا عقل له .
الفرق الثاني : أن المعتوه قد يكون مميزا ، وقد يكون غير مميز ، بخلاف المجنون ، فلا يكون مميزا أبداً .
الفرق الثالث : المعتوه لا يصاحبه تهيج واضطراب ، بخلاف المجنون فقد يصاحبه تهيج واضطراب .
فالمعتوه غير مكلَّف مطلقا ، وهو مذهب الجمهور ، وهو الصحيح ؛ قياسا على المجنون ، وعلى الصبي غير المميز ، والجامع : ضعف العقل عن إدراك حقائق الأمور ، وعن فهم خطابات الشارع على ما هي عليه " انتهى من " المهذب في أصول الفقه المقارن " (1/335) .
وقد سبق في الفتوى رقم : (214189) بيان تفصيل ضابط المكلف من غير المكلف لمن أصابته آفة الجنون أو العته ، يمكن الإفادة منها هناك .
فإن أدى فاقد الإدراك – سواء كان معتوها أو مجنونا – العبادات : فإننا نرجو أن يكتب الله عز وجل له أجرها ، ويثيبه عليها ، كما تصح عبادة الصبي ويؤجر عليها ، بل صحح كثير من العلماء حج المجنون مثلا ، ونصوا على ثوابه ، وإن لم يجزئ عنه ، وكرم الله واسع ، وباب ثوابه وأجره لا ينفد .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي :
" هناك رجل ضعيف العقل ، ولكنه ليس مجنونا ، إلا أنه لا يستطيع التمييز بين أشياء كثيرة ، فهو لا يستطيع العد من الواحد إلى العشرة مثلا مهما حاولنا معه ، هل يجب على مثل هذا الرجل الصيام والصلاة وضبطها عليه ، حيث إنه يكلف ببعض الأعمال ، مما يؤدي إلى عطشه ، كالرعي ؟
فأجاب بقوله :
إذا كان يعقل أن الله أوجب عليه الصوم والصلاة ، يفهم أنه خلق ليعبد الله ، ويميز فيما يتعلق بماله في ضبط ماله والتصرفات في ماله ، فهذا من العقلاء ، يلزمه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه من صلاة وغيرها .
أما إن كان عقله قد اختل ، وتبين خلل عقله ، وأنه من جملة المعتوهين الذين ليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل ، أو بين الخير والشر ، وبين ماله ومال غيره ، ونحو ذلك ، فالعاقل بيِّنٌ ، إن كان عاقلا فعليه التكاليف ، وإن كان غير عاقل سقطت عنه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصغير حتى يبلغ ) .
فالذي يشبه المجنون ، بعدم ضبطه للأمور ، وعدم حسن التصرف لأن عقله مفقود ، فلا تكليف عليه " انتهى من " فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر " (6/ 14) .
والخلاصة :
أن المصاب باضطراب الشخصية إذا شخَّص الطبيب حالته بأنه لا قدرة لديه على الإدراك وتمييز الأمور ، فلم يعد يفهم الخير من الشر ، والصواب من الخطأ ، فمثلُه رُفع عنه القلم حتى يشفى مما هو فيه ، قال عليه الصلاة والسلام : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ ) رواه أبوداود في " السنن " (رقم/4403) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
والفحص الطبي هو الأقدر على تحديد هذا الأمر في إنسان معين ، ولا يكفي السؤال عبر الإنترنت .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب