الحمد لله.
نرجو من أخينا السائل الكريم أن يتفهم جوابنا حق تفهمه ، وأن يدرك حقيقة ما نرمي
إليه ، فنحن نريد له الخير ، وننصحه بالحق والعدل بإذن الله .
وما نرمي إليه هنا لا نقصد به تزهيدك بالعلم ، وحثك على عدم الخوض فيه ، وإنما نرمي
إلى أن تتيقظ دائما إلى عدم الإغراق في الجزئيات ، فلا يأخذك سحرها أو بريقها ، ولا
يصرفك طول الجدل فيها ، وحرارة حوار العلماء حولها عن المقاصد الأساسية في عقيدة
المسلم ، وعن المقاصد الجليلة في شريعتنا العملية ، وعن وصية النبي صلى الله عليه
وسلم حين قال : ( تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي
اللَّهِ ) رواه الطبراني في " المعجم الأوسط " (6/250)، وصححه الألباني في "
السلسلة الصحيحة " (1788) .
والمقاصد الأساسية في العقيدة الصحيحة هي الإيمان بأركان الإيمان الستة ، بالله ،
وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، على وجه الإجمال
أولا ، وبالتفصيل الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ، ونص عليه رسوله عليه الصلاة
والسلام في الصحيح المجمع عليه من سنته .
وما سوى ذلك من شرح العلماء وتفصيلهم ، وتفسيرهم الدقيق لهذه المجملات ، أو ما
اختلف فيه العلماء تصحيحا وتضعيفا وأشكل عليك ، فلا يجب عليك الإيمان به ، ولا
الخوض فيه ، وإن خضت ، فإياك أن تنسى أن موقع تلك التفاصيل في العقيدة الإسلامية
موقع ثانوي غير رئيسي، ولا تشكل تصورات المسلم الحقيقية للكون والغيب والحياة ، كما
لن تؤثر في منظومة القيم والأخلاق التي تبني عليها حياتك ، ولا في معاملتك أو
عبادتك ، ولا في قناعتك عن التيارات والمذاهب والأديان المناقضة للإسلام ، فاقدر
لها قدرها الحقيقي ، واعرف موازين العقائد والأفكار ، وسيكون ذلك سببا رئيسا في
استقرار فكرك ومعتقدك ، وذهاب وطأة تباين الآراء من صدرك ، بإذن الله .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا
أُوتُوا الْجَدَلَ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا
جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) الزخرف/58 ) رواه أحمد في " المسند " (36/
493) وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة ، ورواه
الترمذي في " السنن " (3253) وقال : حسن صحيح .
ولما قدر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر حق قدره ، لم يكن يتوسع في أبواب الأسماء
والصفات بين يدي عامة الناس ، فذلك ما لم يوجبه الله ولا رسوله على العلماء ولا على
الناس أنفسهم .
فقال رحمه الله :
" وأما قول القائل : لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام : فأنا ما فاتحت
عاميا في شيء من ذلك قط " انتهى من " مجموع الفتاوى " (5/266) .
ولو كانت هذه الخلافات والتفاصيل من صلب أصول الدين لما ترخص شيخ الإسلام في السكوت
عنها ، والزهد في حشد الناس حولها .
ويقول رحمه الله :
" فالمسلمون - سنيهم وبدعيهم - متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر ، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ومتفقون على أن من
أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذب ، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمدًا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إليه فهو كافر ، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين
وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان .
فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد ، أو بعض معاني بعض الأسماء ، أمر خفيف
بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه .
مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة ،
مشهود عليهم بالضلالة ، ليس لهم في الأمة لسان صدق ، ولا قبول عام ، كالخوارج
والروافض والقدرية ونحوهم .
وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس ، ولكن يجب رد ما
تنازعوا
فيه إلى الله ورسوله " انتهى من " مجموع الفتاوى " (7 /357) .
ولو قضيت أكثر عمرك في البحث في مقاصد الدين ، والحرص على العمل بها ، وامتثال ما
تعلمته منها ، والتأمل في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما
كفاك العمر ولا العمران في سبيل ذلك ، فكيف إذا صرفت همتك ووقتك فيما لم يأمرك الله
عز وجل به ، وفيما يكفيك فيه الإيمان المجمل ، فتقول كما قال الإمام الشافعي رحمه
الله : " آمَنت بِمَا جَاءَ عَن الله على مُرَاد الله ، وَبِمَا جَاءَ عَن رَسُول
الله على مُرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " انتهى من " ذم التأويل "
لابن قدامة (ص/11) .
فنصيحتنا إليك أن تترك عنك قلقك وعناءك الوارد في السؤال ، وأن تُمر ما أشكل عليك
مما ثبت في الكتاب والسنة كما جاء من غير تمثيل ولا تعطيل ، وتدعو بما دعا به النبي
صلى الله عليه وسلم فتقول : ( اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ
وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ،
إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) رواه مسلم (770) .
أما المختلف فيه ، وما فيه تردد ومباحث دقيقة لدى العلماء ، كحديث رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم ربه في المنام ، فلو غلب على ظنك جانب الضعف فيه ، وعدم ثبوت ذلك عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم ، واعتقدت أقوال من ضعفه من أمثال يحيى بن معين ،
والنسائي ، وابن حبان ، وابن حجر وغيرهم ؛ فتجاوزته ولم تؤمن بما ورد فيه : أجزأك
ذلك ، ولم يكن عليك حرج إن شاء الله .
وللتوسع في الكلام على هذا الحديث يمكنك مراجعة الفتوى رقم : (152835)
.
ونصيحتنا لك أخيرا ، هي
نصيحة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، لتلميذه الخصيص به ، المقرب منه ، الإمام
ابن القيم رحمه الله :
" قال لي شيخ الإسلام – رضي الله عنه – وقد جعلت أورد عليه إيراد بعد إيراد: لا
تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة ، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها ، ولكن
اجعله كالزجاجة المصمتة ، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها ؛ فيراها بصفائه
ويدفعها بصلابته ، وإلا فإذا أَشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات ، أو
كما قال " .
انتهى من " مفتاح دار السعادة " (1/140) .
وانظر مقالا نافعا في شرح هذه الوصية ، للشيخ الدكتور عبد الرحمن صالح المحمود ،
حفظه الله :
http://dorar.net/art/416
والله أعلم .