الحمد لله.
وروى البخاري (3448) ، ومسلم (155) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ) .
فكيف الجمع بين ذلك وبين حديث مسلم المتقدم ؟
للعلماء في ذلك أقوال :
القول الأول : أن ذكر الدجال في الحديث وهم .
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله في " المفهم " (23/85) في شرحه لهذا الحديث : "
يلزم عليه أن يرتفع التكليف بالإيمان وبالتوبة عند خروجه ، والأحاديث الآتية في صفة
الدجال تدل على خلاف ذلك على ما سنبينه ، فدل على أن ذكر الدجال مع الطلوع وهم من
بعض الرواة ، والله تعالى أعلم " انتهى .
القول الثاني ، وهو قريب من
الأول : أن ذكر الدجال في الحديث : تصحيف ، والصواب أنه : ( الدخان ) ، كما في
رواية الإمام أحمد (9752) : ( ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْرًا : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَالدُّخَانُ ، وَدَابَّةُ
الْأَرْضِ ) .
لكن قال الألباني رحمه الله في " الصحيحة " (7/ 1635) :
" وقع في طبعة "المسند"- بدلاً من: "الدجال "-: "الدخان "! ولا أراه إلا تصحيفاً "
انتهى .
القول الثالث : أن هذا
المراد من هذا الحديث : أن أحدا لا يجد عند خروج هذه الآيات من عمل ينفعه ، إلا إذا
كان قد اعتاد مثل ذلك العمل من قبل ؛ فمنها ما يبهت الناظر فيه عن العمل ، وإن كان
لو عمل ، لقبل منه ، لكنه : لدهشته ، وعدم استمساك قدمه في مقام العمل من قبل : لا
يعمل شيئا ينفعه .
وإما لأن وقت العمل قد انقضى ، وباب التوبة قد أغلق .
ثم إن تفصيل الفرق بين هذه الآيات ، ما يتعذر معه العمل ، وما لا يقبل معه العمل ،
مرجعه إلى النصوص الأخرى المبينة لذلك .
ويشهد لذلك ما رواه مسلم في صحيحه (2947) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ
سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ الدُّخَانَ أَوْ الدَّجَّالَ أَوْ
الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ ) .
قال السندي رحمه الله :
" أَيِ : اعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ وَاشْتَغِلُوا بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ هَذِهِ
السِّتِّ الَّتِي هِيَ تَشْغَلُكُمْ عَنْهَا " انتهى من "حاشية سنن ابن ماجة "
(2/501) .
وقال ابن رجب رحمه الله :
" وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَعُوقُ عَنِ
الْأَعْمَالِ ، فَبَعْضُهَا يَشْغَلُ عَنْهُ، إِمَّا فِي خَاصَّةِ الْإِنْسَانَ ،
كَفَقْرِهِ وَغِنَاهُ وَمَرَضِهِ وَهَرَمِهِ وَمَوْتِهِ ، وَبَعْضُهَا عَامٌّ ،
كَقِيَامِ السَّاعَةِ ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ ، وَكَذَلِكَ الْفِتْنُ
الْمُزْعِجَةُ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ
فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ) .
وَبَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ لَا يَنْفَعُ بَعْدَهَا عَمَلٌ ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْرًا [الأنعام: 158]
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
مِنْ مَغْرِبِهَا ، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ ، آمَنُوا أَجْمَعُونَ ،
فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسَا إِيمَانِهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ،
لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ،
وَالدَّجَّالُ ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ
الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ...
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ
أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهَا وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، إِمَّا بِمَرَضٍ أَوْ
مَوْتٍ ، أَوْ بِأَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ
مَعَهَا عَمَلٌ .." انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/388) .
القول الرابع : أن عدم
الانتفاع بالعمل ، لا يكون إلا بتمام هذه الثلاث الآيات ، وأن خروج الدابة والدجال
، وإن كان مؤذنا بذلك ، وإرهاصا بين يديه ، فإنه لا يستتم ذلك الوعيد ، إلا بخروج
الثلاث ، وظاهر النصوص : أن آخرها خروجا : هو طلوع الشمس من مغربها ، وعنده يغلق
باب التوبة ، وينقطع النفع بالعمل المستأنف الجديد ، إلا من كان عهده بالإيمان
والعمل سابقا لطلوع الشمس .
قال القاري رحمه الله :
" الْمُرَادُ هَذِهِ الثَّلَاثُ بِأَسْرِهَا : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا،
وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ ، وَقَدَّمَ الطُّلُوعَ وَإِنْ كَانَ
مُتَأَخِّرًا فِي الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ مَدَارَ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ
عَلَيْهِ ، وَإِنْ ضُمَّ خُرُوجُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ " انتهى من "مرقاة المفاتيح"
(8/ 3451)
وسئل الشيخ عبد الرحمن
البراك حفظه الله :
جاء في صحيح مسلم : ( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو
كسبت في إيمانها خيرا ؛ طلوع الشمس من مغربها، والدجال ، ودابة الأرض )، فهل التوبة
تنقطع إذا خرج الدجال؟
فأجاب :
" الآية التي إذا جاءت لا ينفع نفسا إيمانها هي طلوع الشمس من مغربها، وبذلك فسر
قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْرًا ) ؛ فالتوبة لا تنقطع إلا إذا طلعت الشمس من مغربها ؛ كما صح بذلك الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وخروج الدجال سابق لطلوع الشمس من مغربها ، فلا تنقطع التوبة عند خروجه .
وأما الحديث المذكور في السؤال : فلا يدل على انقطاع التوبة وقت خروج أيِّ واحدة من
المذكورات، بل المراد إذا خرجن كلهن ، وذلك لا يكون إلا إذا طلعت الشمس من مغربها،
فيدل على أن خروج الدجال قبل ذلك ، وكذلك الدابة ، إلا أن خروجها قريب من طلوع
الشمس من مغربها " انتهى .
http://goo.gl/XHLz7c
وأقوى هذه الوجوه المذكورة هو القول الرابع ، الأخير ، والقول الثالث .
والله تعالى أعلم .