الحمد لله.
فهذه الآية لا يؤخذ منها أن
كل المعبودين من دون الله ، يشملهم ذلك الوعيد الوارد في الآيات السابقات ، وذلك
لأمور :
1. أن الآية محمولة على الأصنام والأوثان ؛ ويدل على ذلك أنه جاء التعبير في الآية
بـ " ما " الدالة على غير العاقل .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : " والآية المذكورة إنما عبر الله فيها
بلفظة ( مَا ) التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء ؛ لأنه قال : ( إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ ) ، ولم يقل : " ومن " تعبدون ، وذلك صريح في أن المراد الأصنام
، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة ، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك
بقوله تعالى بعده : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) .
وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة ، لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم
العربي ، الذي نزل به القرآن ، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلا ، إلا لأجل الجدل ،
والخصومة بالباطل " انتهى من " أضواء البيان " (7/124) .
2. في الآيات ما يدل على أن
هناك استثناء ، فعيسى ابن مريم والملائكة ، وكل من عبد وهو غير راض ، فإنه لا يشمله
ذلك الوعيد ، وذلك في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) .
قال ابن كثير رحمه الله : "
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ ، وَخَرَجَ
مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ ، كَمَا قَالَ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ
، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) ،
ثُمَّ اسْتَثْنَى ، فَقَالَ : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
) فَيُقَالُ : هُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَعِيسَى ... " انتهى من " تفسير ابن كثير "
(5/ 379) .
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ما يؤيد القول بالاستثناء :
فعن ابن عباسٍ : لمَّا نزلت إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ
جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الانبياء:98] قالَ عبدُ الله بنُ الزبعرى :
أنا أخاصمُ لكُم محمدًا فقالَ : يا محمدُ ! أليسَ فيما أُنزل عليكَ : إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله الآية [الانبياء: 98]؟
قالَ : ( نعم ) . قال : فهذهِ النصارىَ تعبدُ عيسىَ ، وهذه اليهودُ تعبدُ عزيرًا ،
وهذه بنو تميمٍ تعبدُ الملائكةَ ، فهؤلاءِ في النارِ ، فأنزل الله تعالى إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
[الانبياء:101] .
رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (985) ، وغيره ، وقال ابن كثير رحمه الله : "
قول ابن الزبعرى هذا ، مشهور في كتب التفسير والسير والمغازي". انتهى من " تحفة
الطالب" (288) .
وذكره الألباني في "صحيح السيرة" (197) ، والوادعي في "الصحيح المسند من أسباب
النزول" (135) ، وينظر أيضا : " الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور" ، د. حكمت
بشير ياسين (3/397) .
وينظر للفائدة : "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/369) .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله
: " ودخول آلهة المشركين النار : إنما هو الأصنام ، أو من عبد ، وهو راض بعبادته .
وأما المسيح ، وعزير، والملائكة ونحوهم ، ممن عبد من الأولياء ، فإنهم لا يعذبون
فيها ، ويدخلون في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى )
أي : سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله ، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في
الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة ، ( أُولَئِكَ عَنْهَا ) أي : عن النار ، (
مُبْعَدُونَ ) فلا يدخلونها ، ولا يكونون قريبا منها ، بل يبعدون عنها ، غاية البعد
، حتى لا يسمعوا حسيسها ، ولا يروا شخصها " انتهى من " تفسير السعدي " (ص/531).
والله أعلم .