الحمد لله.
وقد احتوت مؤلفاته كفتح
الباري ، مواضع ينكر فيها على بعض منكرات الطرق الصوفية .
قال الحافظ ابن حجر "رحمه الله" نقلاً عن القرطبي "رحمه الله" : " وأما ما ابتدعه
الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية غلبت على
كثير ممن ينسب إلى الخير ، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان ،
حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة ، وانتهى التواقح بقوم منهم ، إلى أن
جعلوها من باب القرب ، وصالح الأعمال ، وأن ذلك يثمر سني الأحوال ، وهذا على
التحقيق من آثار الزندقة ، وقول أهل المخرفة ، والله المستعان" .
قال ابن حجر رحمه الله تعليقا على ذلك : " وينبغي أن يعكس مرادهم ، ويقرأ : (
سَيِّءَ ..)" انتهى من " فتح الباري " (2/442) .
وقال السخاوي في حديث : لبس
الخرقة الصوفية ، وكون الحسن البصري لبسها من علي :
" قال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل ، وكذا قال شيخنا - أي الحافظ ابن حجر - :
إنه ليس في شيء من طرقها ما يثبت ، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي
صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية ، لأحد من أصحابه
، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك ، وكل ما يروى في ذلك صريحاً فباطل .
قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن علياً ألبس الخرقة الحسن البصري ؛ فإن
أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً ، فضلاً عن أن يلبسه الخرقة ".
انتهى من " المقاصد الحسنة " ، للسخاوي (1/176) .
ثالثا :
الأصل هجر أهل البدع من الصوفية وغيرهم لكن هذا الهجر ليس على إطلاقه بل مضبوط
بوجود المصلحة الشرعية من الهجر وغياب المفسدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد ، وقد يكون
مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا ،
وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله . فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه ،
وتحضها على فعل ضد ظلمه : من الإيمان والسنة ونحو ذلك . فإذا لم يكن في هجرانه
انزجار أحد ولا انتهاء أحد ؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة
مأمورا بها ، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية .
فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة ، وكان مداراتهم فيه
دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي . وكذلك لما
كثر القدر في أهل البصرة ، فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار
المحفوظة فيهم ...
فإن أقواما جعلوا ذلك عاما ، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به ، فلا
يجب ولا يستحب ، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون
أعرضوا عن ذلك بالكلية ، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها
ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره ، أو وقعوا فيها ، وقد يتركونها ترك المنتهي
الكاره ، ولا ينهون عنها غيرهم ، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة
عليها ، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا ، فهم
بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه ، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا
هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه . والله سبحانه أعلم " انتهى من "
مجموع الفتاوى " ( 28 / 212 - 213 ) .
والذي يظهر ، والله أعلم ،
أن ابن حجر رحمه الله في تدريسه في بعض المدارس التي كان فيها تصوف أو بعض الصوفية
، كان يزن بذلك الميزان ؛ ميزان تحقيق المصلحة الشرعية ، فقد كانت دروسه رحمه الله
تعالى في نشر السنة وقراءة كتب الحديث ، فيكون نشره للحديث والسنة ، وتعليم الناس
العلم ، ولو في مدرسة للصوفية ، نوعا من الدعوة ، وتحصيلا لخير ، فواته أعظم من
هجران تلك المدارس ، أو الربط .
وقد حكى تلميذه السخاوي ما كان عليه رحمه الله تعالى من الدعوة للسنة ؛ قال رحمه
الله تعالى :
" وأما اتباعه للسنة في جميع أحواله ، فشيء لا يسأل عنه ، لأنها عنه تؤخذ ، ومنه
تعرف ، ويحرص بلسانه وقلمه على جذب الناس إليها ، وتحذيرهم من مخالفتها ، حتى كان
يتأثر من تأخير الفطر وتقديم السحور ... " انتهى من " الجواهر والدرر " ( 3 / 1049
) .
رابعا :
يوجد من الأعلام المشهورين من تتشابه أسمائهم فعندما ينسب إلى أحدهم قول أو موقف قد
يخطئ القارئ فيظن أنه الشخص الآخر ، فيجب الاعتناء بهذا والانتباه له .
ومن هذا اسم " ابن حجر " فقد اشتهر به عالمان ؛ الأول هو الحافظ ابن حجر العسقلاني
، والثاني هو ابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي ، وهو متأخر عن الحافظ ابن حجر
العسقلاني ، صاحب فتح الباري .
فأحيانا لا تذكر النسبة فيجهل المقصود .
وما ذكر في السؤال : ( وذكرت
مصادر أخرى أنه كان ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية ) ، قد يكون المقصود به الفقيه
ابن حجر الهيتمي ، فهو الذي اشتهر بدفاعه عن الصوفية ومخالطته لأصحابها ، أما ابن
حجر العسقلاني فلا يعرف انه انتسب إلى طريقة من الطرق الصوفية .
خاصة وأن شمس الدين السخاوي رحمه الله تعالى ذكر سيرة شيخه الحافظ ابن حجر الشخصية
والعلمية ، وقد طبعت في ثلاث مجلدات باسم " الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام
ابن حجر " ، ولا يظهر منها ما يدل على انتماء الحافظ لأي طريق من طرق الصوفية .
والله أعلم .