الحمد لله.
أولا :
بعض المصطلحات تحمل في معانيها حقا وباطلا ، فلا ينبغي أن نسارع إلى الإنكار على أصحابها إلا بعد الاستفصال عن مقصدهم منها هل هو المعنى الحق ؟ أم الباطل؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده ، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به ، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره ... " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 12 / 114 ) .
ومن هذه الألفاظ التصوف ؛ فأحيانا يطلق التصوف والصوفية ويراد بها الزهد والإعراض عن الدنيا ، وملازمة ذكر الله تعالى ، كما كان حال الزهاد من السلف الصالح الذين ينسبون إلى التصوف ، وإن وجدت عندهم بعض المخالفات اليسيرة فهي مغمورة بجانب ما أصابوا فيه الحق. وكثيرا ما يستعمل التصوف والصوفية ويراد بها هذه الطرق البدعية التي نراها في زمننا ، وما فيها من منكرات كالرقص والغناء والشعوذة ، وبعض الاعتقادات الكفرية والشركية كالحلول والاتحاد وعبادة القبور والتوسل بالأموات ونحو هذا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" والتحقيق فيه – أي في التصوف - : أنه مشتمل على الممدوح والمذموم ، كغيره من الطرق ، وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا ، وقد لا يكون ، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في " الرأي " فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة ، و" القاعدة " التي قدمتها تجمع ذلك كله ، وفي المتسمين بذلك من أولياء الله وصفوته وخيار عباده : ما لا يحصى عده . كما في أهل " الرأي " من أهل العلم والإيمان من لا يحصي عدده إلا الله . والله سبحانه أعلم " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 10 / 370 ) .
ثانيا :
أكثر أهل العلم الذين اشتهر علمهم وفضلهم : إذا ثبت عن بعضهم ثناء على بعض الصوفية ، أو مخالطته لهم ، فالمقصود بهم النوع الأول وليس أولئك الصوفية المتلبسين بالبدع والشركيات .
وهذا هو الظاهر من حال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ، وهو اللائق بالمعروف من حياته وسيرته ، فقد كان محبا للصالحين ، مبغضا منكرا على المبتدعة الضالين .
قال السخاوي رحمه الله تعالى :
" وكذا كان يجهر بالإنكار على ابن عربي ومن نحا نحوه ... " .
انتهى من " الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر " ( 3 / 1046 – 1047 ) .
وقال السخاوي أيضا :
" ومع وفور علمه ـ يعني شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ وعدم سرعة غضبه ، فكان سريع الغضب في الله ورسوله ... إلى أن قال: واتفق كما سمعته منه مراراً أنه جرى بينه وبين بعض المحبين لابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي ، أدت إلى أن نال شيخنا من ابن عربي لسوء مقالته ، فلم يسهل بالرجل المنازع له في أمره ، وهدَّده بأن يغري به الشيخ صفاء الذي كان الظاهر برقوق يعتقده ، ليذكر للسلطان أن جماعة بمصر منهم فلان يذكرون الصالحين بالسوء ونحو ذلك ، فقال له شيخنا: ما للسلطان في هذا مدخل ، لكن تعالَ نتباهل ؛ فقلما تباهل اثنان ، فكان أحدهما كاذباً إلا وأصيب ، فأجاب لذلك، وعلَّمه شيخنا أن يقول: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال، فالعَنِّي بلعنتك ، فقال ذلك .
وقال شيخنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعنِّي بلعنتك ، وافترقا.
قال: وكان المعاند يسكن الروضة ، فاستضافه شخص من أبناء الجند جميل الصورة ، ثم بدا له أن يتركهم ، وخرج في أول الليل مصمماً على عدم المبيت ، فخرجوا يشيعونه إلى الشختور، فلما رجع أحسَّ بشيءٍ مرَّ على رجله ، فقال لأصحابه: مرَّ على رجلي شيء ناعم فانظروا ، فنظروا فلم يروا شيئاً. وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي ، وما أصبح إلا ميتاً.
وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وتسعين (وسبع مئة)، وكانت المباهلة في رمضان منها. وكان شيخنا عند وقوع المباهلة عرَّف من حضر أن من كان مبطلاً في المباهلة لا تمضي عليه سنة " انتهى من " الجواهر والدرر" (3/1001-1002) .
وقد احتوت مؤلفاته كفتح
الباري ، مواضع ينكر فيها على بعض منكرات الطرق الصوفية .
قال الحافظ ابن حجر "رحمه الله" نقلاً عن القرطبي "رحمه الله" : " وأما ما ابتدعه
الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية غلبت على
كثير ممن ينسب إلى الخير ، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان ،
حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة ، وانتهى التواقح بقوم منهم ، إلى أن
جعلوها من باب القرب ، وصالح الأعمال ، وأن ذلك يثمر سني الأحوال ، وهذا على
التحقيق من آثار الزندقة ، وقول أهل المخرفة ، والله المستعان" .
قال ابن حجر رحمه الله تعليقا على ذلك : " وينبغي أن يعكس مرادهم ، ويقرأ : (
سَيِّءَ ..)" انتهى من " فتح الباري " (2/442) .
وقال السخاوي في حديث : لبس
الخرقة الصوفية ، وكون الحسن البصري لبسها من علي :
" قال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل ، وكذا قال شيخنا - أي الحافظ ابن حجر - :
إنه ليس في شيء من طرقها ما يثبت ، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي
صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية ، لأحد من أصحابه
، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك ، وكل ما يروى في ذلك صريحاً فباطل .
قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن علياً ألبس الخرقة الحسن البصري ؛ فإن
أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً ، فضلاً عن أن يلبسه الخرقة ".
انتهى من " المقاصد الحسنة " ، للسخاوي (1/176) .
ثالثا :
الأصل هجر أهل البدع من الصوفية وغيرهم لكن هذا الهجر ليس على إطلاقه بل مضبوط
بوجود المصلحة الشرعية من الهجر وغياب المفسدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد ، وقد يكون
مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا ،
وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله . فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه ،
وتحضها على فعل ضد ظلمه : من الإيمان والسنة ونحو ذلك . فإذا لم يكن في هجرانه
انزجار أحد ولا انتهاء أحد ؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة
مأمورا بها ، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية .
فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة ، وكان مداراتهم فيه
دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي . وكذلك لما
كثر القدر في أهل البصرة ، فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار
المحفوظة فيهم ...
فإن أقواما جعلوا ذلك عاما ، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به ، فلا
يجب ولا يستحب ، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون
أعرضوا عن ذلك بالكلية ، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها
ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره ، أو وقعوا فيها ، وقد يتركونها ترك المنتهي
الكاره ، ولا ينهون عنها غيرهم ، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة
عليها ، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا ، فهم
بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه ، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا
هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه . والله سبحانه أعلم " انتهى من "
مجموع الفتاوى " ( 28 / 212 - 213 ) .
والذي يظهر ، والله أعلم ،
أن ابن حجر رحمه الله في تدريسه في بعض المدارس التي كان فيها تصوف أو بعض الصوفية
، كان يزن بذلك الميزان ؛ ميزان تحقيق المصلحة الشرعية ، فقد كانت دروسه رحمه الله
تعالى في نشر السنة وقراءة كتب الحديث ، فيكون نشره للحديث والسنة ، وتعليم الناس
العلم ، ولو في مدرسة للصوفية ، نوعا من الدعوة ، وتحصيلا لخير ، فواته أعظم من
هجران تلك المدارس ، أو الربط .
وقد حكى تلميذه السخاوي ما كان عليه رحمه الله تعالى من الدعوة للسنة ؛ قال رحمه
الله تعالى :
" وأما اتباعه للسنة في جميع أحواله ، فشيء لا يسأل عنه ، لأنها عنه تؤخذ ، ومنه
تعرف ، ويحرص بلسانه وقلمه على جذب الناس إليها ، وتحذيرهم من مخالفتها ، حتى كان
يتأثر من تأخير الفطر وتقديم السحور ... " انتهى من " الجواهر والدرر " ( 3 / 1049
) .
رابعا :
يوجد من الأعلام المشهورين من تتشابه أسمائهم فعندما ينسب إلى أحدهم قول أو موقف قد
يخطئ القارئ فيظن أنه الشخص الآخر ، فيجب الاعتناء بهذا والانتباه له .
ومن هذا اسم " ابن حجر " فقد اشتهر به عالمان ؛ الأول هو الحافظ ابن حجر العسقلاني
، والثاني هو ابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي ، وهو متأخر عن الحافظ ابن حجر
العسقلاني ، صاحب فتح الباري .
فأحيانا لا تذكر النسبة فيجهل المقصود .
وما ذكر في السؤال : ( وذكرت
مصادر أخرى أنه كان ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية ) ، قد يكون المقصود به الفقيه
ابن حجر الهيتمي ، فهو الذي اشتهر بدفاعه عن الصوفية ومخالطته لأصحابها ، أما ابن
حجر العسقلاني فلا يعرف انه انتسب إلى طريقة من الطرق الصوفية .
خاصة وأن شمس الدين السخاوي رحمه الله تعالى ذكر سيرة شيخه الحافظ ابن حجر الشخصية
والعلمية ، وقد طبعت في ثلاث مجلدات باسم " الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام
ابن حجر " ، ولا يظهر منها ما يدل على انتماء الحافظ لأي طريق من طرق الصوفية .
والله أعلم .
تعليق