الحمد لله.
ومما يعينكم على معرفة ما حصل منكم : هل هو مجرد خطبة ، أو هي عقد زواج : النظر في حالكم عند حصول ذلك ؛ فإذا كنت قد تقدمت لخطبة الفتاة قبل ذلك ، وقبلوا بك خاطبا ، على ما يجري من عادة الناس ، وتواعدتم أن يكون هذا الاجتماع لأجل التزويج ، فهذه قرائن كافية للحكم بأن ما حصل من الكلام بينكم كان عقد تزويج ، وليس مجرد خطبة .
وقد حكى شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله اختلاف الفقهاء في العقود : هل يشترط في صحتها صيغة أو لفظ معين ،
أو تصح بالفعل الدال عليها ، على ثلاثة أقوال ؛ قال :
" وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ
وَغَيْرِهَا فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ،
فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهَا أَيْسَرُ مِنْهُ فِي الْعِبَادَاتِ ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ
الْعُقُودِ. فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ : أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا
بِالصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ
الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ : الْبَيْعُ ، وَالْإِجَارَةُ ،
وَالْهِبَةُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَالْوَقْفُ ، وَالْعِتْقُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أحمد ....
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ
بِالْأَفْعَالِ ، كَالْمَبِيعَاتِ الْمُحَقَّرَاتِ ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ
بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ ...
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى
مَقْصُودِهَا ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَبِكُلِّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا
أَوْ إِجَارَةً . فَإِنِ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ
وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ
بَيْنَهُمْ مِنَ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ.
وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَقِرٌّ ، لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ ، بَلْ
يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ ، كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ ،
فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ هِيَ
الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوِ الرُّومِ أَوِ التُّرْكِ أَوِ
الْبَرْبَرِ أَوِ الْحَبَشَةِ ، بَلْ قَدْ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ اللُّغَةِ
الْوَاحِدَةِ.
وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ
فِي الْمُعَامَلَاتِ . وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا
يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ إِذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى
مَقْصُودِهِمْ . وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ، وَهَذَا هُوَ
الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مالك وَظَاهِرِ مَذْهَبِ أحمد ...
ثم قال : " وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مَعْرُوفَةٌ:
مِنَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا لَهُ، فَإِذَا
قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " مَلَّكْتُهَا لَكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ " عَلِمَ
الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ، وَقَدْ شَاعَ
هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ إِمْلَاكًا
وَمِلَاكًا .. "
ثم قال : " وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ
الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ
، هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الَّتِي
تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ .. " انتهى .
" القواعد النورانية " (ص/161) وما بعدها .
وأما مجرد تصرف والدك في العقد نيابة عنك ، فلا يبطل عقدك ؛ فإن حضورك معه ، وموافقتك على ما قال : تجعل العقد صحيحا ، لا إشكال فيه ، إن شاء الله .
والله أعلم .