الحمد لله.
غير أن هذا الحديث قد ورد
بعدة أسانيد وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة .
فمن ذلك :
- ما رواه أبو داود (4252) ، والترمذي (2229) عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه مرفوعا
بلفظ : ( إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ) ، وصححه
الألباني رحمه الله في " صحيح سنن أبي داود " .
وقد جاء في صحيح مسلم (2937) الإشارة إليه ، فعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي
الله عنه ، قَالَ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غَيْرُ الدَّجَّالِ
أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ ، فَأَنَا حَجِيجُهُ
دُونَكُمْ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ،
وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ) .
قال النووي رحمه الله في "
شرح صحيح مسلم " :
" وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَفِيهِ أَوْجُه أَظْهَرهَا أَنَّهُ مِنْ أَفْعَل
التَّفْضِيل , وَتَقْدِيره غَيْر الدَّجَّال أَخْوَف مُخَوِّفَاتِي عَلَيْكُمْ ,
ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَاف إِلَى الْيَاء , وَمِنْهُ : أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَى
أُمَّتِي الْأَئِمَّة الْمُضِلُّونَ ) " انتهى .
وقد ذكر الألباني رحمه الله طرق الحديث وصححه في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1582)
، (1989) .
وقد جود إسناده الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (ص72) ، وكذا ابن كثير في "
مسند الفاروق " (2/535) ، والمناوي في " التيسير " (2/ 162) ، وقال الشيخ أحمد شاكر
في " تحقيق مسند أحمد " (1/150) : إسناده حسن . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
"حديث الأئمة المضلون محفوظ ، وأصله في الصحيح " انتهى من " بيان تلبيس الجهمية "
(2/293) .
ثانيا :
معنى الحديث : أن الأئمة المضلين من أشد ما يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته
، حتى إنهم أخوف عنده على أمته من الدجال .
قال المناوي رحمه الله :
" قال أبو البقاء : معناه : أني أخاف على أمتي من غير الدجال أكثر من خوفي منه .
وقال ابن العربي : هذا لا ينافي خبر : ( لا فتنة أعظم من فتنة الدجال ) ؛ لأن قوله
هنا : ( غير الدجال ... إلخ ) ، إنما قاله لأصحابه ، لأن الذي خافه عليهم أقرب
إليهم من الدجال ، فالقريب المتيقن وقوعه لمن يُخاف عليه ، يشتد الخوف منه ، من
البعيد المظنون وقوعه ، ولو كان أشد " انتهى من " فيض القدير " (4/535) .
وقال النووي رحمه الله في "
شرح مسلم " (18/64) :
" ( أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلُّونَ ) مَعْنَاهُ :
أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَخَافُهَا عَلَى أُمَّتِي ، أَحَقُّهَا بِأَنْ تُخَافَ
: الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ " انتهى .
والمقصود بالأئمة المضلين :
الأئمة المتبوعون الذين يضلون الناس عن سبيل الله ، فيدخل في ذلك : الحكام الفسدة ،
والعلماء الفجرة ، والعُبَّاد الجهلة .
وكما وجد في أهل الكتاب علماء فجرة يصدون الناس عن سبيل الله ويضلونهم كما قال
تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ
وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ ) التوبة/34 ، فقد وجد من هذه الأمة من العلماء والعباد من كان مثل
علماء وعباد أهل الكتاب .
" قال سفيان بن عيينة رحمه الله : كَانُوا يَقُولُونَ : مَنْ فَسَدَ مِنْ
عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا
فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى . وقال غير واحد من السلف : احْذَرُوا فِتْنَةَ
الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ ، فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ
لِكُلِّ مَفْتُونٍ" انتهى من " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (1/197) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" فالأئمة المضلون هم الأمراء " انتهى من " مجموع الفتاوى" (1/355) .
وقال السندي في " حاشية ابن
ماجة " (2/465) :
" ( أئمة مضلين ) أي : داعين الخلق إلى البدع " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" ( الأئمة المضلين ) أئمة الشر ، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، إن أعظم ما يخاف
على الأمة الأئمة المضلون ، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة
بسببهم .
والمراد بقوله : ( الأئمة المضلين ) : الذين يقودون الناس باسم الشرع ، والذين
يأخذون الناس بالقهر والسلطان ، فيشمل الحكام الفاسدين ، والعلماء المضلين ، الذين
يدعون أن ما هم عليه شرع الله ، وهم أشد الناس عداوة له " انتهى من " القول المفيد
على كتاب التوحيد " (1/365) .
والله أعلم .