الحمد لله.
نعم ، اختلف أهل العلم في حكم التمثيل الخالي من المحرمات .
فأهل العلم الذين لم يجيزوه عللوا ذلك بأمور ؛ من أهمها :
الأمر الأول :
في التمثيل نوع كذب ، والكذب فيه من جهتين ؛ من جهة أن الممثل يتلبس بشخصية ليست هي
شخصيته حقيقة فهذا كذب ، وكذا نسبته لهذه الشخصية من الأقوال والأفعال مالم يحدث
وهذا كذب آخر .
سُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
" هل معنى ذلك أنك تنصح أبناءنا المسلمين بدراسة هذه المجالات – أي الإعلام - حتى
يحتلوا الأماكن التي يغزوها هؤلاء المفسدون ؟
فأجاب : نعم ، ينبغي للعلماء ألا يتركوا هذه الأمور للجهلة ، وأن يتولوا بث الخير
والفضيلة في كافة المجالات ، ولكن هناك مسألة التمثيل ، فأنا لا أنصح بممارسة
التمثيل ، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله أما أن يتقمص المرء
شخصية فلان واسم فلان فيقول : أنا عمر أو أنا عثمان أو نحو ذلك فهذا كذب لا يجوز
فعله " .
انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز " ( 5 / 271 – 272 ) .
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى :
" التمثيل ، لا ينفك عن (الكذب) ، بحال في الفعال ، والأقوال ...
ووجه عدم انفكاكه عن الكذب على ما يلي :
1 - إن كان أسطورة فهذا من أساسه اختلاق ، وبئس المطية لتوجيه الأمة وترفيهها بما
هو كذب عليها ، وملاعبة لعقولها .
2 - وإن كان يمثل معيناً كصلاح الدين الأيوبي، وغيره من العظماء من قبل ومن بعد ،
فإنهم سيقولون (قال) وما قال، و (فعل) وما فعل، وهكذا في حركات ، وتصرفات ، هي محض
افتراء ، وتقوّل عليه .
وإذا حرم الله شيئاً مثل الكذب ، حرم ما بني عليه ، وأوصل إليه ، والتمثيل سبيل
إليه ، فيحوي من الكذب ما تراه ، فالله المستعان " انتهى من " التمثيل " ( 39 – 40
) .
الأمر الثاني : غالبا ما يحدث في التمثيل أن يتلبس الممثل بحالات وأفعال مهينة تسقط
مروءته ، والمسلم مطالب بحفظ مروءته .
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى :
" المروءة من مقاصد الشرع ، وخوارمها من مسقطات الشهادة قضاء ، والشرع يأمر بمعالي
الأخلاق ، وينهي عن سفاسفها ، فكم رأى الراءون ( الممثل ) يفعل بنفسه الأفاعيل ، في
أي عضو من أعضائه، وفي حركاته ، وصوته ، واختلاج أعضائه ، بل يمثل : دور مجنون ، أو
معتوه ، أو أبله ، وهكذا .
وقد نص الفقهاء " في باب الشهادة " على سقوط شهادة " المضحك " و " الساخر " و "
المستهزئ " و" كثير الدعابة " ، وهذا منتشر في كلام الفقهاء من المذاهب الأربعة
وغيرهم ... وعليه فلا يمتري عاقل ، أن ( التمثيل ) من أولى خوارم المروءة ، ولذا
فهو من مسقطات الشهادة قضاء ، وما كان كذلك ، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته .
ومن المسلمات أن (التمثيل) لا يحترفه أهل المروءات ، ولا من له صفة تذكر في العقل
والدين " انتهى من " التمثيل " ( ص 35 – 36 ) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن
التمثيل إذا كان مضبوطا بالضوابط الشرعية ، وخلا من المحرمات ، وفيه مصلحة شرعية :
فهو مباح . وإلى هذا ذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ، حيث قال :
" كثير من إخواننا يمنع من التمثيل مطلقا ، ويقول إنه لا يجوز لأنه يتضمن الكذب ،
وربما يتضمن استهزاء بالشعائر الدينية ، كما لو تقمص الممثل شخص رجل كبير السن ،
ووضع عليه لحية من الصوف وما أشبه ذلك .
ومن الناس من يقول إذا كان التمثيل هادفاً ، ولم يتضمن محظورا ، بكذب على أحد ، ولا
بقيام الرجل بدور المرأة ، أو المرأة بدور الرجل ، ولم يكن فيه تقليد للحيوانات :
فإنه لا بأس به ؛ فيجيز التمثيل بشروط .
وليعلم أن الأصل في غير العبادات الحل والإباحة ، وهذا من فضل الله عز وجل : أن يسر
على العباد ما لم يحرمه عليهم ، فإذا كان الأصل الحل ، فإنه لا بد من إقامة الدليل
على التحريم . وإذا قلنا : إن هذا حرام ، وقال الآخرون : هذا حلال ؛ فالقول مع
المحلل ، إلا إذا كان هناك دليل يدل على التحريم ، فيجب اتباع الدليل . وهذا في غير
العبادات .
أما العبادات ، وهي ما يقصد به التقرب إلى الله : فإن الأصل فيها المنع والتحريم ،
لأن العبادات طريق إلى الله عز وجل ، وهي صراط الله ، ولا يمكن أن نفتري على الله
ما لم يجعله طريقا موصلا إليه .
فلهذا : كانت هذه القاعدة المشهورة عند العلماء ، قاعدة سليمة دل عليها الكتاب
والسنة والنظر الصحيح ؛ أن الأصل في العبادات المنع والحظر ، حتى يقوم دليل على
أنها مشروعة ، والأصل في غير العبادات من الأفعال والأقوال والمنافع : الأصل فيها
الحل ، حتى يقوم دليل على المنع " .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن عثيمين " ( 24 / 2 ترقيم الشاملة ).
والمسألة من المسائل
الاجتهادية التي لا يوجد فيها نص قاطع ، لا على الجواز ولا على عدمه ؛ فمن اتبع من
يقول بالجواز ، لا على سبيل الهوى والتشهي ، وإنما لاعتقاده قوة هذا القول ، وقربه
للحق : فله ذلك ، ومن اتبع من يقول بالتحريم ، لاعتقاده أنه الحق : فله ذلك .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 10836
) ، ورقم : ( 144322 ) .
والله أعلم