الحمد لله.
ثانياً :
أما في الدنيا فأطفال المشركين تبعٌ لآبائهم في الأحكام ، كالإرث والنكاح والقصاص
والديات وغير ذلك ، فلا يغسلون ولا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين .
قال ابن القيم رحمه الله : " قد علم بالاضطرار من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم أن
أولاد الكفار تبع لآبائهم في أحكام الدنيا " انتهى من "شفاء العليل" (ص 298).
وكون أطفال المشركين يتبعون آبائهم في أحكام الدنيا لا يعني أنهم في حقيقة الأمر
كفار ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ،
فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ) رواه
البخاري (1385) ، ومسلم (2658).
فهم كلهم مولودون على الفطرة ، ومنهم من يدخل الجنة حتماً.
وإنما يقال : هم كفار حكماً تبعا لآبائهم ، لا حقيقة.
قال ابن القيم رحمه الله : " وَكَوْنُ الصَّغِيرِ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي أَحْكَامِ
الدُّنْيَا هُوَ لِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ
مِنْ مُرَبٍّ يُرَبِّيهِ ، وَإِنَّمَا يُرَبِّيهِ أَبَوَاهُ ، فَكَانَ تَابِعًا
لَهُمَا ضَرُورَةً " انتهى من "أحكام أهل الذمة" (2/1047).
قال : " فَإِذَا سُبِيَ الطِّفْلُ مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ حُكِمَ
بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ [ أي ولاية الإسلام ] ،
وَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْأَبَوَيْنِ عَنْهُ ، هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ " انتهى من "أحكام أهل الذمة" (2/924).
وقال : " وَاحْتَجَّ الْفُقَهَاءُ وَالْأَئِمَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ - يعني حديث :
( كل مولود يولد على الفطرة ) - وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ : أَنَّهُ إِذَا وُلِدَ
عَلَى الْمِلَّةِ فَإِنَّمَا يَنْقُلُهُ عَنْهَا الْأَبَوَانِ اللَّذَانِ
يُغَيِّرَانِهِ عَنِ الْفِطْرَة ِ، فَمَتَى سَبَاهُ الْمُسْلِمُونَ مُنْفَرِدًا
عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ ، وَهُوَ مَوْلُودٌ عَلَى
الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ ، فَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِالْمُقْتَضي السَّالِمِ عَنِ
الْمُعَارِضِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ يَجْعَلَانِهِ كَافِرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِدُونِ
تَعْلِيمٍ وَتَلْقِينٍ لَكَانَ الصَّبِيُّ الْمَسْبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ
الْكَافِرِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَافِرَ الْبَالِغَ إِذَا سَبَاهُ
الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَافِرًا حَقِيقَةً ،
فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ التَّابِعُ لِأَبَوَيْهِ كَافِرًا حَقِيقَةً لَمْ
يَنْتَقِلْ عَنِ الْكُفْرِ بِالسِّبَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ
حُكْمُ الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ ، لَا لِأَنَّهُ صَارَ
كَافِرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ " انتهى من "أحكام أهل الذمة" (2/1047).
وقال أيضا :
" قال شيخنا - يعني ابن تيمية - : " والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا
على القول الذي رجحناه ، وهو أنهم على الفطرة ، ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله
فيهم من سعادة وشقاوة " انتهى من "شفاء العليل" (ص 292).
وقد عرضنا هذه المسألة على شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله تعالى ، فقال : "
أطفال المشركين كفار حكماً لا حقيقةً ، ومعنى الكفر الحكمي : أنهم يتبعون آبائهم في
أحكام الدنيا" انتهى .
ثالثاً :
من فقه المسلم انشغاله بأمر نفسه ، وما يهمه من أمر دينه ، وعدم انشغاله بمسائل
الخلاف التي لا ينفعه الانشغال بها ، ولا يضره ترك الانشغال بها .
ومسألة أطفال المشركين مما ينبغي على عموم المسلمين ألا يستكثروا من السؤال عنها ،
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ
الْأُمَّةِ قِوَامًا أَوْ مُقَارِبًا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي الْوِلْدَانِ
وَالْقَدَرِ " ، رواه عبد الله بن أحمد في "كتاب السنة" (2/401).
قال ابن حبان في صحيحه (6724): " الْوِلْدَانُ: أراد به أطفال المشركين " .
والله أعلم .