مشكلتي أني كنت في الغربة فترة من الزمن ، بعيدا عن زوجتي وأولادي ، والآن أردت أن آتي بهم ليعيشوا معي في أمريكا ، المشكلة أن زوجتي تقول لي : إنها لا ترغب بالاستمرار معي ، وإنها وصلت إلى الشعور بأنها لا تستطيع إعطائي حقي أمام الله ، وهي تريد الخلع .
يشهد الله أني كنت أعاملها بما يرضي الله طوال فترة زواجنا التي تقارب العشر سنوات ، وهي تقول ذلك أيضا ، ولكنها تقول : إن هذا الشعور موجود عندها منذ ما يقارب العام ، والسبب هو بعض المشاكل التي حدثت معها وأنا في الغربة ، أثناء عدم وجودي بقربها .
أنا تفهمت الموضوع ، ولكن لدي شعور بالغضب ، ومستعد لإعطائها فرصة للرجوع بسبب وجود الأولاد ، وللحفاظ على البيت ، وعلى أمل أن يتغير موقفها ، ولكنها مصرة .
المشكلة أنها لا تستطيع مواجهة أهلها بطلب الخلع ، تقول لي : تريد أن تُطلق بدون معرفة أهلها وتظل في أمريكا ، لتبدأ حياتها من جديد ، مع العلم أنها ليس لديها أي أقارب هنا ، ولكنها تريد أن تشعر أنها مستقلة .
أنا أرفض وأصر أن الخلع حق شرعي لها ، ولنعد إلى بلدنا ، ونعمل الإجراءات اللازمة ، هي تخاف من سوء معاملة أهلها لها ، ولهذا تفضل البقاء هنا بشرط أن تطلق .
لا أدري هل ألبي رغبتها أن تطلق من دون معرفة أحد ، والبقاء في أمريكا ؟ أستطيع أن أعيش في بيت آخر بعد انقضاء العدة ، أم إن بقاءها هنا وحدها مطلقة سيجلب مفسدة أكبر ؟ أم ماذا يجب أن أفعل ؟
مع العلم أني لا أريد هذا الطلاق ، من باب درء مفسدة رجوعها عند أهلها والحفاظ على أولادي معي ومعها ، ولا أريد أيضا أن أظلمها ، هي تقول : أنت تعلم أن أهله لا يرحمون ولن يتفهموا .
أحد الحلول هو أن تبقى هنا مجبرة تحت ضغط أهلها ، ولكن من غير طلاق ، وأصبر على الوضع الحالي لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، مع أنها تقول : إن هذا الحل يعني أن نعيش في جحيم .
الحمد لله.
من الواضح أن زوجتك تعيش اضطرابا في الشخصية ، وعدم استقرار في الرأي ، حيث لا يبدو
فيما ذكرت أي سبب وجيه لطلبها الخلع ، وهدم الأسرة ومفارقة الزوج والأولاد ، ولا
يمكن لوحدتها التي قضتها بعيدة عنك أن تؤدي بها إلى هذه الحال ، وقد فرج الله عنكما
، وجمع الشمل بعد الفراق ، وأكرمها بأسرة صالحة مستقرة ! فالواجب عليها أن تشكر
الله عز وجل على هذه النعمة ، وأن تعرف لله حقه ، ولأسرتها حقها ، ولأهلها في بلدها
حقهم ، فتحفظ هذه النعم ، وتعلم أن ما تطلبه من الفراق هو كفران للنعمة ، وظلم
للنفس والأسرة ، وطريق للشقاء والتعاسة ، وباب من أبواب الفساد تفتحه ولا تدري هل
تتمكن من إغلاقه فيما بعد أم لا !
لذلك فالنصيحة لك أن لا تتعجل في الاستجابة لطلبها ، وتركها غريبة في بلاد الغربة ،
بل تصبر عليها مع إبقاء رباط الزوجية ، سواء أقمت معها في منزل واحد ، أم بت في
منزل قريب منهم ، المهم أن تمنح نفسيتها المضطربة الوقت الملائم الكافي ، لكي
تستقيم وتعتدل ، وتواصل التفكر في الأسباب الحقيقية التي أدت بها إلى هذه الحال ،
فتعمل على علاجها وتجاوزها ، وتستمر في تذكيرها بتقوى الله ، والشفقة على الأبناء ،
وتستعمل في ذلك أساليب الترغيب التي تحبها ، وتذكرها بالعلاقة الجميلة التي جربتها
وإياها يوما ما ، والذكريات الطيبة التي مرت بكما ، بالهدية أو المفاجأة السارة أو
المصارحة بحقيقة المشاعر والعواطف ، حتى تبدأ تتلمس النعمة الجديدة التي أنعم الله
بها عليها ، وتستشعر ثقل مغادرتها والعيش منفردة بعيدة عن هذه الطمأنينة ، وخاصة
شأن الأولاد الذين سيتفرق شملهم بين الوالدين ، واضطرارها لتدبر أمور الحياة
المالية واليومية .
فإذا تأملت ذلك كله ، رجونا لها أن تعدل عن طلبها ، أو على الأقل : أن تتريث فيه ،
وأنت في جميع ذلك تنظر إليها نظر مشفق رحيم ، تعلم أنها بحاجة لمساعدة ودعم نفسيين
، وفي أمس الحاجة للنصح والتوجيه والإرشاد ، فإن سارَعْتَ أنت واستجبت لطلبها
الطلاق ، كنت قد أعنت الشيطان على نفسها .
وفي المقابل أيضا ينبغي عليك أن تفتش جاهدا ؛ فلعل هناك تقصيرا من جهتك ، وتبحث عن
مكامن الخلل التي أدت بزوجتك إلى رغبتها بفراقك ، وهذا لا يعني أننا ننسب الخلل إلى
جهتك ، أو أننا نعذرها فيما هي عليه من الحال المعوج ؛ ولكننا في الوقت نفسه نذكرك
بأن كل بني آدم خطاء ، والنقص يعتري الإنسان ، ولا يملك عنه حولا ، فقد يكون الفتور
العاطفي من جهتك ، أو الإهمال التربوي والنفسي ، أو السلبية الزائدة التي قد تكون
تعاملت بها ، أو المشكل المالي مثلا ، قد تكون هذه العقبات ، كلها أو بعضها ، هي
التي أدت إلى ما وقع لزوجتك ، وكثيرا ما يقع ذلك لزوجات المغتربين ، الذين تشغلهم
أعمالهم حتى عن التواصل مع أهليهم ، وسؤالهم عن تفاصيل حياتهم ، فيبدأ القلب يسلو
شيئا فشيئا ، والنفس تعتاد الجفاء والقسوة ، حتى يبلغ الأمر ما بلغ عند زوجتك .
ولهذا كان من حكمة الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا
يحرم الزوجة بغياب زوجها في الجيش أكثر من أربعة أشهر ، كما روى ذلك ابْن عُمَرَ،
قَالَ: " خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ اللَّيْلِ،
فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ :
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهْ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حَبِيبَ
أُلَاعِبُهْ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : كَمْ أَكْثَرُ مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا ؟
فَقَالَتْ : سِتَّةُ أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ.
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : لَا أَحْبِسُ الْجَيْشَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا
"
رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (9/51) .
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله :
" إذا كان يخشى شرا على أهله ، أو يخشى أن الحالة تسوء بينه وبينهم ، فينبغي له أن
يلاحظ العودة إليهم سريعا ، في الوقت المناسب ، ولا يرتبط ارتباطا طويلا قد يفضي
إلى الفرقة بينه وبين أهله ، أو يفضي إلى مضرة عليهم ، ولا سيما إذا كان يخاف عليهم
من الفساد ، فينبغي أن يلاحظ هذا بنقلهم معه ، أو الزيارة التي تكون قريبة لا بعيدة
، ويتفق مع من يعمل عندهم ، على هذا الشيء ، وكذلك إذا كان في طلب العلم : يحرص على
الزيارة في الأوقات المناسبة ، كالإجازة الصيفية ، أو غيرها من الأوقات التي يمكن
أن يزور فيها ، حتى يجمع بين مصلحتين ، مصلحة طلب العلم والعمل ، ومصلحة أهله
وزيارتهم وقضاء حاجتهم " .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر " (21/ 321) .
ثم بعد ذلك كله ؛ فإن كان
ولا بد من الفراق ، ولم تستقم زوجتك على العشرة معك بالمعروف ، ولم تقدر لك ذلك كله
، ولا جاهدت نفسها ، وهواها ، وشيطانها : فليكن ذلك بعلم أهلها ومشورتهم ، وليس في
ذلك ظلم لها ولا تقصير بحقها ، بل فيه حفظ وصيانة لها عن أوحال الغربة وهمومها ،
ودرء لمفاسد عديدة ، يمكن أن يكون الأهل عونا في حلها وعلاجها ؛ فإياك أن تعطيها ما
تطلب ، وتعينها على هواها بفراق بيتها ، وأسرتها ، ثم تركها في الغربة ، بلا زوج ،
ولا أهل ؛ بل إما أن تبقى معك في بيتك ، وفي حبالك ، وإما أن تعود إلى أهلها ،
وتبلغها مأمنها ، والمأمن عليها .
وأخيرا نوصيك بالحرص على
الدعاء ، فهو ذخيرتك عند ربك ، ولا ينبغي أن تزهد في نتيجته ، فهي عند الله دائما
أجر وفضل بإذنه سبحانه ، وأكثر من الاستغفار وعمل الصالحات ، لعل الله تعالى يكتب
بها الهداية لزوجتك .
والله أعلم .