تفصيل الخلاف في الستة أيام التي خلقت فيها السماوات والأرض

07-05-2017

السؤال 240599


وجدت أنّ الكثير من الناس يفسرون مسألة خلق الله السموات والأرض في ستة أيام (أو 6000 سنة) أنّ الأيام تعني مراحل، بمعنى أنّ الله خلقهم على ست مراحل، وذلك لأنّ المسألة لا تتطابق مع العلم الحديث، (وهو بحد ذاته غير موثوق به). فهل هذا التفسير صحيح؟

الجواب

الحمد لله.


أولا:
يتفق العلماء والمفسرون على أن الزمان الناتج عن حركة الأفلاك السماوية لم يكن موجودا قبل خلق السماوات والأرض، ولهذا فإخبار الله عز وجل عن خلقهما في (ستة أيام) لا يراد به أيامنا الناتجة عن حركة الأرض حول الشمس، بل المراد المقدار المماثل في الزمان بما يناسب ظرف الخلق في ذلك الحين.
قال البغوي رحمه الله :
"أراد به: في مقدار ستة أيام، لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن يومئذ يوم، ولا شمس، ولا سماء" انتهى من "تفسير البغوي" (3/ 235)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"والرسل أخبرت بخلق الأفلاك، وخلق الزمان، الذي هو مقدار حركتها، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك، وفي زمان قبل هذا الزمان؛ فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام. وسواء قيل: إن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها؛ أو قيل: إنها أكبر منها كما قال بعضهم: إن كل يوم قدره ألف سنة - فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض ، غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك. وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض" انتهى من "مجموع الفتاوى" (18/ 235)
ويقول الألوسي رحمه الله:
"ولا يمكن أن يراد باليوم اليوم المعروف؛ لأنه كما قيل: عبارة عن كون الشمس فوق الأرض، وهو مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء" انتهى من "روح المعاني" (6/ 62)
وهؤلاء العلماء كلهم أشاروا إلى الخلاف – الذي سيأتي التوسع فيه – في معيار "تقدير" الستة أيام، إن كان بأيام الدنيا أم بأيام الله، ولكنهم نبهوا على أنه – على جميع الأقوال – لا يجوز تفسير الزمان بالزمان المعروف في دنيا الناس اليوم، وهو الناتج عن حركة الأرض والشمس.
ثانيا:
ثم اختلفوا في هذا "المقدار" للستة أيام، إن كان مساويا لمقدار أيام الدنيا، أم لا، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها ستة أيام كأيام الدنيا العادية
واستدلوا عليه بظاهر قول الله عز وجل: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الأعراف/ 54 ، وقوله سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) السجدة/ 4.
كما يمكن أن يستدل عليه بحديث خلق التربة المشهور في "صحيح مسلم"، ولكن دلالته على هذا القول محل نظر كبير؛ لأن الحديث يبين تفاصيل المخلوقات على الأرض، وليس أصل خلق السماوات والأرض، فضلا عما يكتنف هذا الحديث من كلام نقدي يطول شرحه، سبق الكلام عليه في الجواب رقم: (218080) .
يقول الزمخشري رحمه الله:
"الظاهر أنها من أيام الدنيا" انتهى من "الكشاف" (3/ 288).
ويقول ابن عطية رحمه الله :
"قال أكثر أهل التفسير: الأيام: هي من أيام الدنيا. وقالت فرقة: هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة. قاله كعب الأحبار، والأول أرجح" انتهى من "المحرر الوجيز" (3/ 152) .
وقال ابن كثير رحمه الله:
"الجمهور على أنها كأيامنا هذه" انتهى من " البداية والنهاية" (1/ 16) .
وجاء في "حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي" (5/ 4):
"(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قيل: هي مدة مساوية لأيام الدنيا. وقيل: هي بالمعنى اللغوي، وهو مطلق الوقت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها من أيام الآخرة التي هي كألف سنة مما تعدون. قيل: والأوّل أنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدّة اليسيرة، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه" انتهى.
وهو ما اختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حين قال:
"خلقها الله عز وجل في ستة أيام، والأيام أطلقها الله عز وجل، ولم يبين أن اليوم خمسين ألف سنة، أو أقل، أو أكثر، وإذا أطلق يحمل على المعروف المعهود، وهي أيامنا هذه، وقد جاء في الحديث أنها الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة" انتهى من "تفسير العثيمين: الحجرات – الحديد" (ص: 364) .
هذا حاصل من قال بالقول الأول، مع التحفظ على نسبة هذا القول إلى الجمهور؛ إذ لا يبدو أن الجمهور يقولون به، بل بالقول الثاني الذي وصفه الإمام الطبري بقوله: "لا نعلم قائلا من أئمة الدين قال خلافه".
القول الثاني: مقدار كل يوم كألف سنة من أيام الدنيا
عن ابن عباس في قوله: (في ستة أيام) قال: يوم مقداره ألف سنة. رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1496)، والطبري في "جامع البيان" (20/168) .
وعن مجاهد: يوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون. "تفسير الطبري" (12/482)
وعن الضحاك: (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ، قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة. ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق يوم الجمعة، فسميت "الجمعة"، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا". "تفسير الطبري" (15/245)، (20/168)
ونحوه قال يحيى بن سلام كما في "تفسيره" (2/ 685) ,
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
"أما قوله: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47] فهذا من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض، كل يوم كألف سنة" انتهى من "الرد على الجهمية" (ص70) ونسب ابن كثير هذا القول إليه أيضا في "تفسير القرآن العظيم" (3/426) .
ويقول ابن جرير الطبري رحمه الله:
"فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل يوم منهن قدر ألف عام من أعوام الدنيا، دون أن يكون ذلك كأيام أهل الدنيا التي يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه: (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)، فلم يُعلمنا أن ذلك كما ذكرت، بل أخبرنا أنه خلق ذلك في ستة أيام، والأيام المعروفة عند المخاطبين بهذه المخاطبة ، هي أيامهم التي أول اليوم منها طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ومن قولك: إن خطاب الله عباده بما خاطبهم به في تنزيله إنما هو موجه إلى الأشهر والأغلب عليه من معانيه، وقد وجهت خبر الله في كتابه عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام إلى غير المعروف من معاني الأيام، وأمر الله عز وجل ، إذا أراد شيئا أن يكونه : أنفذُ وأمضى من أن يوصف بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، مقدارهن ستة آلاف عام من أعوام الدنيا، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، وذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)؟
قيل له:
قد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا : إنا إنما نعتمد في معظم ما نرسمه في كتابنا هذا على الآثار والأخبار عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وعن السلف الصالحين قبلنا، دون الاستخراج بالعقول والفكر، إذ أكثره خبر عما مضى من الأمور، وعما هو كائن من الأحداث، وذلك غير مدرك علمه بالاستنباط [و] الاستخراج بالعقول:
فإن قال: فهل من حجة على صحة ذلك من جهة الخبر؟
قيل: ذلك ما لا نعلم قائلا من أئمة الدين قال خلافه.
فإن قال: فهل من رواية عن أحد منهم بذلك؟
قيل: علم ذلك عند أهل العلم من السلف ، كان أشهر من أن يحتاج فيه إلى رواية منسوبة إلى شخص منهم بعينه، وقد روي ذلك عن جماعة منهم مسمين بأعيانهم .
فإن قال: فاذكرهم لنا.
قيل: [فأورد مجموعة آثار بأسانيده عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وكعب الأحبار]" انتهى من "تاريخ الرسل والملوك" (1/ 57-59) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وقد أخبر الله أنه: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) في مواضع متعددة من القرآن. وأخبر أنه: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)، وأنه: (وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... ) ، وأمثال هذه النصوص التي تدل على أن السماوات والأرض مخلوقة في أيام، وأن كل يوم كألف سنة، كما قال ذلك طائفة من السلف" انتهى من "مسألة حدوث العالم" (ص: 152) .
ويقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله:
"(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) من أيام الله تعالى في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق ، لا قبله، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا، وما يؤيده من قوله: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) (22: 47) وقوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (70: 4)" انتهى من " تفسير المنار" (12/ 15) .
القول الثالث: اليوم مطلق الوقت، أي : مرحلة زمنية تقديرية غير محددة .
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله:
"قيل المراد: في ستة أوقات، فإن اليوم يطلق على الوقت، كما في قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره) [الأنفال: 16] أي: حين إذ يلقاهم زحفا. ومقصود هذا القائل أن السماوات والأرض خلقت عالما بعد عالم، ولم يشترك جميعها في أوقات تكوينها" انتهى من "التحرير والتنوير" (8-ب/ 161) .
رابعا:
إذا تبين أن المسألة يدخلها الاحتمال والاختلاف، وأن الآراء الشرعية في تناولها متنوعة بقدر كبير، وليس فيها حد قطعي ولا ترجيح جزمي، عرفنا أن خلق التعارض أو التناقض بين النقل الديني ، وعلوم الفلك والفيزياء في هذه المسألة : ليس من الصواب ولا من المنهجية الموضوعية، وسواء ترجح لدى الفلكيين أو الفيزيائيين خلق السماوات والأرض في مدة طويلة أو قصيرة، فلا يدل ذلك بحال على بطلان المنظور الكوني في النصوص الإسلامية، لما علمت من اتساع دلالة هذه النصوص، واحتمال العلماء لمجموعة من الأقوال في تفسيرها وتأويلها، مما يعني ضرورة بذل الباحث جهده في التوفيق بين المنظورين: الكوني والشرعي، وقراءتهما جميعا كوحدة واحدة صادرة عن الله سبحانه، الذي له الخلق والأمر، دون تكلف ادعاء تناقض، ولا تبجح باكتشاف التعارض.
وقد وجدنا في المختصين الفيزيائيين من يجمع بين النظرين، ويبين أن ادعاء الحسم في مثل هذه القضايا – على المستوى الفيزيائي والفلكي – مخاطرة ومغامرة، كما أكد الأستاذ الدكتور حسين راشد عمري – الأستاذ في قسم الفيزياء في جامعة مؤتة – في بحث محكم منشور له في مجلة مؤتة للبحوث والدراسات، حيث يقول:
" إذا كانت مادّة خلق السّماوات السّبع والأرضين السّبع مادّة نيوكليونيّة، فإنّ طول اليوم الواحد من أيّام خلقهنّ يعدلُ ألف سنةٍ ممّا نعدُّ.
أمّا إذا كانت مادّة خلقهنّ مادّة غير نيوكليونيّة، فيرجّح أنّ أيّام خلق السّماوات السّبع والأرضين السّبع هي بطول الأيّام الأرضيّة (24 ساعة)" انتهى، وللتوسع ينظر البحث مطولا على الرابط الآتي:

http://esystem.mutah.edu.jo/eijaz/univcreation.htm
والله أعلم.

تفسير القرآن
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب