الحمد لله.
ثالثا :
اختلف أهل العلم في الصف الذي يلي الإمام إذا قطعه شيء ، كالسارية أو المنبر ، هل
تبقى له فضيلته ، أم تكون للصف الذي لا يقطعه شيء مما يليه .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في " فتح الباري " (6/ 275):
" واختلف الناس في الصف الأول: هل هوَ الذي يلي الإمام بكل حال، أم الذي لا يقطعه
شيء؟ وفيه قولان للعلماء ... فأما الصف الذي يقطعه المنبر ، فهل هوَ الصف الأول ،
أم لا ؟
قالَ أحمد - في رواية أبي طالب والمروذي وغيرهما -: إن المنبر لا يقطع الصف. فيكون
الصف الأول الذي يلي الإمام ، وإن قطعه المنبر ، بخلاف المقصورة .
وتوقف في ذَلِكَ في رواية الأثرم وغيره .
وقالت طائفة: الصف الأول هوَ الذي يلي الإمام بكل حال، ورجحه كثير من أصحابنا، ولم
أقف على نص لأحمد به " انتهى.
وقال ابن قدامة - رحمه الله – في " المغني " (2 / 262):
" واختلفت الرواية عن أحمد في الصف الأول ، فقال في موضع : هو الذي يلي المقصورة ؛
لأن المقصورة تُحمى . وقال : ما أدري هل الصف الأول الذي يقطعه المنبر ، أو الذي
يليه ؟ والصحيح أنه الذي يقطعه المنبر ؛ لأنه هو الأول في الحقيقة ، ولو كان الأول
ما دونه أفضى إلى خلو ما يلي الإمام . ولأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
يليه فضلاؤهم ، ولو كان الصف الأول وراء المنبر ، لوقفوا فيه ". انتهى.
وقال النووي في " شرح مسلم " (4/160) :
" اعلم أن الصف الأول الممدوح ، الذي قد وردت الأحاديث بفضله ، والحث عليه : هو
الصف الذي يلي الإمام ، سواء جاء صاحبه متقدما أو متأخرا ، وسواء تخلله مقصورة
ونحوها أم لا .هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث ، وصرح به المحققون .
وقال طائفة من العلماء : الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه ، لا يتخلله
مقصورة ونحوها ، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول ، بل الأول مالا يتخلله
شيء وإن تأخر .
وقيل : الصف الأول عبارة عن مجيء الإنسان إلى المسجد أولا ، وإن صلى في صف متأخر .
وهذان القولان غلط صريح ، وإنما أذكره ومثله لأنبه على بطلانه ، لئلا يغتر به
"انتهى.
وعلى هذا القول الصحيح المختار : تثبت فضيلة الصف الأول ، للصف الأقرب للقبلة
الذي يلي الإمام ، ولو كان مقطوعا بسارية أو منبر ونحو ذلك .
والصف الأول للرجال أفضل مما وراءه من الصفوف، كما أسلفنا .
جاء في " كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/ 328) للبهوتي : " والصف الأول للرجال
أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لتكونوا في الذي يليني ). وهو أي: الصف
الأول، ما يقطعه المنبر . قال في الإنصاف : على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب
اهـ. والمراد: أنه أول صف يلي الإمام ؛ قطعه المنبر أو لا ، لا ما يليه أي: لا أول
صف يلي المنبر " انتهى.
وسئل الرملي الشافعي : هل يعد المنبر فاصلا حتى يمنع اتصال الصف أو لا ، فتحصل
فضيلة الصف ، كفضيلة الجماعة ؟
(فأجاب) بأنه لا يعد المنبر فاصلا بين المصلي ورفقته ؛ نظرا للعرف ، فإنه يعده صفا
واحدا ، كما لو لم يكن منبر ، ولم يقف في قدر مكانه أحد ، فتحصل معه فضيلة الصف ،
كفضيلة الجماعة ، فقد أطلقوا أن الصف الأول هو الذي يلي الإمام ".
انتهى من " فتاوى الرملي " (1/ 250).
وسئل الشيخ ابن عثيمين : إذا كان الصف الأول من المصلين في المسجد يفصله عن بعضه
منبر الخطيب فهل يعتبر صفاً أولاً في الصلاة ؟
فأجاب : " نعم ، الصف الأول هو الذي يلي الإمام - فإذا كان هذا الصف الذي يفصله
المنبر هو الذي يلي الإمام ، كان هو الصف الأول على كل حال ، والصف الثاني ما بعده
، وهكذا حتى تنتهي الصفوف .
لكن ينبغي إذا كان المسجد واسعاً أن يتأخر الإمام ، حتى يكون الصف الذي خلفه متصلاً
بعضه ببعض ، غير مفصول بالمنبر ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتقون الصف بين
السواري - أي بين الأعمدة - لأنها تقطع الصف .
فأما إذا لم يمكن ، بأن كان العدد كثيراً ، ولا بد من تقدم الإمام ؛ فحينئذ يكون
قطع الصف بالمنبر لحاجة ، ولا بأس به " انتهى من " فتاوى نور على الدرب ".
وعلى ذلك : فمن جاء فوجد المصلين قد أكملوا ما بين الساريتين من الصف الأول ،
فالأفضل أن يقف مع المصلين على الجانب الآخر من السارية ، لينال فضيلة الصف الأول .
والله أعلم .