الحمد لله.
أولاً :
إذا دُفن الميت في القبر ، فالواجب تركه فيه حتى يبلى ، ولا يبقى له أثر ، ولا يجوز
نبش القبر وإخراج عظام الميت منه إلا لمصلحة أو حاجة معتبرة .
قال الحطاب : " وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الْمَوْضِعَ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مِنْهُ
شَيْءٌ مَوْجُودًا فِيهِ حَتَّى يَفْنَى "انتهى من "مواهب الجليل" (5/495).
وفي "فتاوى اللجنة الدائمة" (9/ 122) : " فالأصل أنه لا يجوز نبش قبر الميت وإخراجه
منه ؛ لأن الميت إذا وضع في قبره فقد تبوأ منزلا وسبق إليه فهو حبْسٌ عليه ، ليس
لأحد التعرض له ، ولا التصرف فيه ؛ ولأن النبش قد يؤدي إلى كسر عظم الميت وامتهانه
.
وإنما يجوز نبش قبر الميت وإخراجه منه إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، أو مصلحة إسلامية
راجحة يقررها أهل العلم" انتهى.
وينظر جواب السؤال : (141084).
ثانياً :
1- الواجب عليكم ابتداءً السعي لتحصيل مقبرة خاصة بالمسلمين تكون وقفاً على موتاهم
، لا يُدفن فيها غيرهم ، وتُحترم فيها جثثهم .
فقد " اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي
مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ".
انتهى من "الموسوعة الفقهية" (21/19).
ولكن إن تعذر ذلك ، فيدفن في مقابرهم للضرورة ، كما جاء في " قرار مجمع الفقه
الإسلامي " : " دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية : جائز
للضرورة " انتهى من "قرارات مجمع الفقه الإسلامي" صـ 43.
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال : (180576)
.
2-إذا تعذر ذلك ، فالواجب عليكم استئجار القبر مدةً يَغلب على الظن أن يكون الميت
قد تحلل وبلي فيها ، وهذا القدر يختلف باختلاف الأرض والبلدان ، وهو أمر يعرفه أهل
الخبرة في كل بلد .
3- إذا تعذر استئجار القبر لهذه المدة الطويلة ، ورفض أصحاب المقبرة ترك الميت في
قبره بعد انتهاء مدة الإجارة ، وبقي شيء من عظام الميت لم تبلى وتمكنتم من أخذها
ودفنها في مكان آخر أو أي حفرة في الأرض : فيجب عليكم ذلك.
4-وإذا تعذر جميع ما سبق ، فالذي يظهر في هذه الحال أن يقال :
إذا تيسر لأولياء الميت أن يدفعوا هذا المال لتجديد عقد الانتفاع بالقبر حتى يغلب
على ظنهم أن الميت قد تحلل وبلي : فيندب لهم ذلك استحباباً ، حفظاً للميت ، ورعايةً
لحُرمته ، وصيانةً له .
ولكن لا يجب عليهم ذلك ، وخاصةً إذا كان في دفع هذا المال مشقةً عليه ، أو تكلفةً
باهظة لا يطيقها أهل الميت ، أو تجحف بهم.
لأن الواجب الشرعي المتعلق بالميت أربعة أـمور: ( تغسيله ، وتكفينه ، والصلاة عليه
، ودفنه) ، وقد تم ذلك ، وما فوق ذلك غير لازم لهم.
ويستأنس في هذا بما ذكره الفقهاء من بعض الصور التي لا يلزم فيها أهل الميت دفع
مالٍ لحفظ حرمة ميتهم بعد دفنه .
قال الدَّميري : " إذا أعار لدفن الميت .. فلا يرجع حتى يندرس أثر المدفون ؛ لأن
الدفن يُراد للدوام ، وفي النبش هتك لحرمة الميت.
ويستفاد من منع الرجوع أنه ليس له طلب الأجرة ؛ لأن العرف لم يجر به ، والميت زائل
المِلك ، والأولياء لا يلزمهم " انتهى من "النجم الوهاج في شرح المنهاج" (5/153).
وقال برهان الدين البخاري الحنفي: " وإذا كُفِّن الميت في ثوب غصبٍ ، ودُفن وأهيل
التراب عليه ، فإن كان للميت تركة أخذت القيمة من تركته ، ولا ينبش الميت ، وكذا
إذا لم يكن للميت تركة ، ولكن تبرع إنسان بأداء القيمة أخذ المالك القيمة من
المتبرع ، ولا ينبش القبر، وإن لم يكن شيء من ذلك فصاحب الكفن بالخيار؛ إن شاء تركه
لآخرته ، وهو له فضل ، وإن شاء نبش القبر ، وأخذ الكفن" انتهى من "المحيط البرهاني
في الفقه النعماني" (5/487).
ويلاحظ في هاتين المسألتين أن الفقهاء لم يوجبوا على أهل الميت وأولياءه دفع شيء من
المال حفظاً لحرمة ميتهم من الهتك .
وقد سئل القاضي تقي الدين السبكي: هل يصح استئجار الأرض لدفن الموتى أم لا ؟ وهل
يجوز للمستأجر لغير الدفن أن يدفن الميت، في الأرض المستأجرة؟ وإن فعل المستأجر فهل
يجوز نقله عند طلب المؤجر الأجرة لإبقائه أولا ؟ وهل يلزم الوارث بذل الأجرة ،
والحالة هذه أم يجوز له نقله ، لضرر الأجرة ؟
فقال: " الحمد لله ، يصح استئجار الأرض للدفن... ولا يجوز للمستأجر لغير الدفن أن
يدفن ... ، وإذا دفن حيث لا يجوز الدفن : للمؤجر نقله ، وإذا طلب الأجرة لإبقائه :
لم يلزم الوارث بذلها من عنده ، إلا إذا كان للميت تركة ".
ثم ذكر الخلاف في حكم نقل الميت وقال : " فإن قلنا بالجواز: لا حجر، وإن قلنا
بالمنع : فينبغي أن لا يُقدم عليه ، إلا بعد اليأس من إبقائه مجانا ".
انتهى من "قضاء الأرب في أسئلة حلب" (ص: 458).
وعلى جميع الأحوال : فلو تم إخراج الميت من القبر وإحراقه فيتحمل الإثم كاملا من
قام بهذا العمل ، ولا إثم على أولياء الميت وأقاربه في هذا .
وقد تم عرض هذا الجواب على
شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله تعالى ، فأقره .
والله أعلم .