هل يمكن أن يكون القول المعتمد في المذهب خلاف ما عليه إمام المذهب؟

13-02-2017

السؤال 247742

<> السؤال :
هل يمكن أن يخالف مذهبٌ ما قولَ إمام المذهب، بحيث يكون هو المعتمد عندهم، بمعنى أن يقال إن قول المالكية هو كذا، ويكون قول الإمام بخلاف ما ذهب إليه أتباع المذهب؟

ملخص الجواب:

أن القول المعتمد في "المذهب" يمكن أن يكون على خلاف نص إمام المذهب، ولكنه لا بد أن يجري على قاعدة الإمام ، وأصل مذهبه ونسقه الاجتهادي.

الجواب

الحمد لله.


نشأةُ المذاهب تبتدئ من تقليد أقوال الفقيه المجتهد، والالتزام باجتهاداته واختياراته، أو على الأقل الاقتداء بمنهجه الفقهي والأصولي العام، ولكن هذه النشأة تغيرت وتطورت مع الزمن، حين تولى تلك المهمة "التقليدية" مجموعة من الفقهاء الكبار المؤسسين، الذين تولوا مهمة التنظير والتأسيس والتكميل للمعمار المذهبي الأول، من خلال التخريج على الأقوال، والقياس عليها، وإضافة القيود اللازمة، والمقارنة بين نصوص الأئمة والترجيح بينها، الأمر الذي أفرز عملية تصحيحية وتحريرية واسعة، اصطلح على تسمية ثمارها فيما بعد باسم "المذهب".

وذلك يعني أن "المذهب" هو تلك "المؤسسة التفقهية" الممتدة عبر الزمن، والمعنية بالمنهج الفقهي الخاص بأحد الأئمة، مع جميع ما لحق ذلك المنهج من تطوير وتحرير بعد ذلك. حيث يتعذر أن تكون أقوال واحد من البشر – مهما علا كعبه في العلم – كافية لجميع حوادث الناس في شؤون دينهم ودنياهم، فضلا عن أن تكون متناسبة مع تغير الزمان والمكان والحال.

ولهذا لم يجد فقهاء المذاهب المحرِّرون غضاضة في مخالفة قول الإمام الأول نفسه ، إذا اقتضى الأمر ذلك، وتقرير القول الجديد الذي يؤسَّس باجتهاد خاص، معبرا وناطقا باسم "المذهب المدرسة"، أو "المذهب الاصطلاحي" ، وليس "المذهب الفرد"، أو "المذهب الشخصي" .

وذلك بحمد الله ما انتهجه علماء الأمة الكبار، البانون الأوائل للمذاهب وعلوم الفقه عامة، كلهم تحدث بشكل واضح وصريح عن ضرورة استمرار عملية الاجتهاد والمراجعة، كي لا تموت المذاهب في مهدها ، نتيجة عدم قدرتها على الحراك في خضم أمواج المتغيرات العديدة.

لكن المبالغة في هذا الباب ربما تقود إلى المغالطة، فالمسائل التي يخالف فيها فقهاء المذهب نص إمامهم محصورة ومعدودة، وغالبا ما تكون مخالفتهم مستندة إلى تخريجات ، أو روايات ، أو أقوال أخرى للإمام نفسه، الشأن الذي ينبغي التنبه له، كي تبقى ماهية "المذهب" في إطارها الطبيعي الأصلي الذي حده العلماء وعرفوه به.
جاء في "حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي" (1/ 34):
"يطلق المذهب عند المتأخرين من أئمة المذهب على ما به الفتوى، من إطلاق الشيء على جزئه الأهم ، كالحج عرفة؛ لأن ذلك هو الأهم عند الفقيه المقلد.
والمراد بـ"مذهبه" : ما قاله هو وأصحابه على طريقته .
ونسب إليه مذهبا؛ لكونه يجري على قواعده ، وأصله الذي بني عليه مذهبه .
وليس المراد ما ذهب إليه وحده دون غيره من أهل مذهبه" انتهى.

وهذا كلام صريح في المقصود، في أن المقصود بالمذهب : هو المدرسة كلها ، وما يحرره روادها وأئمتها عبر تاريخها، وليست أقوال الإمام الأول فحسب.
يقول ابن عابدين رحمه الله:
"قد يرجحون دليل أصحابه ، على دليله ، فيفتون به.
ولا يظن بهم أنهم عدلوا عن قوله ، لجهلهم بدليله، فإنا نراهم قد شحنوا كتبهم بنصب الأدلة، ثم يقولون: الفتوى على قول أبي يوسف ، مثلا" انتهى من "شرح عقود رسم المفتي" (ص50)
علق عليه الشيخ محمد تقي العثماني بقوله:
"بما أن جميع أقوال أصحاب أبي حنيفة رواية عنه أيضا، كما سبق تفصيله، فهم يأخذون منها ما يترجح دليله عندهم.
فالمسألة التي رجحها هؤلاء ، يجب على المفتي المقلد اتباعها، سواء أكان المرجَّح قولا للإمام الأعظم، أم لأحد من أصحابه، فهم يرجحون مذهب الصاحبين تارة، ومذهب أحدهما أخرى، بل رجحوا قول زفر في عشرين مسألة ذكرها ابن عابدين ، ونظمها في باب النفقة من رد المحتار. فما رجحه أصحاب الترجيح مقدم على كل ما سواه؛ لأنهم مع شدة ورعهم ، والتزامهم بالمذهب ، رجحوا هذا القول لأسباب وضحت لهم ؛ من قوة الدليل، ومن ضرورة الناس، وتغير الزمان ، والعرف ، وغير ذلك، فالعمل بترجيحهم أولى" انتهى من "أصول الإفتاء" (ص173)

ومن هذه القاعدة قرر فقهاء الحنفية أن يؤخذ في مسائل القضاء بقول أبي يوسف، لخبرته الطويلة في هذا الباب، كما قال ابن عابدين في منظومته في رسم المفتي:
وكل فرع بالقضا تعلقا ** قولُ أبي يوسف فيه يُنتقى.
ويقول الدكتور محمد إبراهيم علي:
"فمن المسلم به أن أصحاب مالك رضي الله عنه – كابن القاسم وغيره – قيدوا ما أطلق، وخصصوا ما عمم من الآثار، وقد نقل أن ابن القاسم خالف مالكا في أكثر من مسألة، وإن كان بعض العلماء حصرها في أربعة مسائل. كما اختار يحيى بن يحيى الليثي – أحد كبار تلاميذ مالك ، وناشر مذهبه في الأندلس ، وصاحب الرواية المشهورة في الموطأ – رأيا مخالفا لمذهب مالك في مسائل معينة، تابعه أهل الأندلس في أكثرها" انتهى من "اصطلاح المذهب عند المالكية" (ص23-24)

وسئل الإمام شهاب الدين الرملي الشافعي رحمه الله:
"عما إذا خالف نص الشافعي الجديد ما عليه الشيخان. فما المعمول به ؟
إن قلتم: النص، فما بال علماء عصرنا ينكرون على من خالف كلام الشيخين.
أو ما عليه الشيخان، فقد صرحا بأن نص الإمام في حق المقلد كالدليل القاطع، وكيف يتركانه ويذكران كلام الأصحاب؟
(فأجاب)
بأن من المعلوم أن الشيخين رحمهما الله ، قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد، ولهذا كانت عنايات العلماء العاملين، وإشارات من سبقنا من الأئمة المحققين ، متوجهة إلى تحقيق ما عليه الشيخان، والأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان، مؤيدين ذلك بالدلائل والبرهان.
وإذا انفرد أحدهما عن الآخر ، والعمل بما عليه الإمام النووي المذهب [ كذا ] ، وما ذاك إلا لحسن النية، وإخلاص الطوية.
وقد اعترض على الشيخين وغيرهما بالمخالفة لنص الشافعي، وقد كثر اللهج بهذا، حتى قيل: إن الأصحاب مع الشافعي ، كالشافعي ونحوه من المجتهدين مع نصوص الشارع، ولا يسوغ الاجتهاد عند القدرة على النص ؟
وأجيب بأن هذا ضعيف؛ فإن هذه رتبة العوام.
أما المتبحر في المذهب ، فله رتبة الاجتهاد المقيد ، كما هو شأن أصحاب الوجوه الذين لهم أهلية التخريج والترجيح، وترك الشيخين لذكر النص المذكور ، لكونه ضعيفا ، أو مفرعا على ضعيف .
وقد ترك الأصحاب نصوصه الصريحة لخروجها على خلاف قاعدته، وأولوها، كما في مسألة من أقر بحريته ثم اشتراه ؛ لمن يكون إرثه ؟
فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال لم يطلعوا عليها، وإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الشافعي، كما أن المجتهد يصرف ظاهر نص الشارع إلى خلافه لذلك، ولا يخرج بذلك عن متابعته، وفي هذا كفاية لمن أنصف" انتهى من "فتاوى الرملي" (4/263).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"واعلمْ أن قول العلماء: مذهب فلان، يُراد به أمران:
الأول: المذهب الشَّخصي.
الثاني: المذهب الاصطلاحي.
والغالب عند المتأخِّرين إذا قالوا: هذا مذهب الشَّافعي، أو أحمد، أو ما أشبه ذلك، فالمراد المذهب الاصطلاحي، حتى إِنَّ الإِمام نفسَه قد يقول بخلاف ما يُسمَّى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه" انتهى من الشرح الممتع (1/21) .
ولا ينكر أن يكون للعوامل التاريخية ، أو الحراك الاجتماعي ، والتأثير والتأثر ، لا ينكر أن يكون لذلك كله آثار في التطور التاريخي للمذهب الاصطلاحي ، في بعض قضاياه ومسائله ، وما يترتب عليه من مخالفات لنص الإمام ، في بعض هذه الأحوال .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طرَف من تأريخ ذلك الجانب في مذهب مالك، ومدوناته :
" ومعلوم أن مدونة ابن القاسم : أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرَّعها أهل العراق ، ثم سأل عنها أسدٌ ابنَ القاسم. فأجابه بالنقل عن مالك [ تارة ] ، وتارة بالقياس على قوله ، ثم أصلها في رواية سحنون .
فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق ، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة.
ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس ، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس ، والولاة يستشيرونه ، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك ، ثم رواية غيره .
فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها ، وقد تكون مرجوحة في المذهب ، وعمل أهل المدينة ، والسنة .
حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك ، وما زال يحدث به إلى أن مات ، لرواية ابن القاسم !!
وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك ؛ فمثل هذا ، إن كان فيه عيب ؛ فإنما هو على من نقل ذلك ، لا على مالك " . انتهى ، من "مجموع الفتاوى" (20/328) .

والخلاصة : أن القول المعتمد في "المذهب" يمكن أن يكون على خلاف نص إمام المذهب، ولكنه لا بد أن يجري على قاعدة الإمام ، وأصل مذهبه ونسقه الاجتهادي.
وانظر في موقعنا الجواب رقم: (194735)
والله أعلم.

أصول الفقه
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب