الحمد لله.
أولا :
كل مذهب من المذاهب الأربعة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة , قد مر بعدة أطوار , يمكن حصرها في الأطوار التالية : النشوء والتكوين , ثم التوسع والنمو , ثم الانتشار , ثم الاستقرار , وهذا الطور الأخير هو ما يطلق عليه " تحرير المذهب " , ومعنى تحرير المذهب " نَخْل مصنفات أئمته وشيوخه ، وبيان ما هو موافق لقول صاحب المذهب وأصوله ، حتى يصح أن ينسب إليه ، ويتميز عن غيره من الوجوه والاجتهادات التي لا يصح أن تنسب إلى صاحب المذهب ، وتُعتبر مذهباً له " انتهى من مقدمة الدكتور عبد العظيم الديب " لنهاية المطلب في دراية المذهب " (المقدمة / 153) بتصرف.
وما يعنينا في هذا المقام هو طور التحرير الذي استقر عليه المذهب , فقد قيض الله سبحانه وتعالى لكل مذهب من المذاهب الأربعة بعضَ أهل العلم النابغين المتبحرين فحرروا المذهب ونقحوه وقرروه , وقد اصطلح علماء المذهب من بعدهم على أن ما يقرره هؤلاء ويرجحونه ويختارونه للفتوى : فهو " المذهب " .
وإذا أخذنا على سبيل المثال المذهب الذي ذكرته في سؤالك وهو المذهب الشافعي , فقد قيض الله سبحانه لهذا المذهب عالمين جليلين , وحبرين كبيرين , وهما أبو القاسم الرافعيّ المتوفَّى سنة (624) هـ , وأبو زكريا النوويّ المتوفَّى سنة (676) هـ , فأصبحا عمدة من جاء بعدهما من فقهاء الشافعية , فينتهي الاجتهاد إلى رأيهما , وتكون الفتوى على اختياراتهما ما اتفقا , فإن اختلفا فالمعتمد ما اختاره النووي , وإن وجد للرافعي ترجيح ولم يوجد للنووي فهو المذهب المعتمد , قال شهاب الدين الرملي : " من المعلوم أن الشيخين - رحمهما الله - قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد , ولهذا كانت عنايات العلماء العاملين ، وإشارات من سبقنا من الأئمة المحققين , متوجهة إلى تحقيق ما عليه الشيخان , والأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان , مؤيدين ذلك بالدلائل والبرهان ، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر فالعمل بما عليه الإمام النووي: المذهب , وما ذاك إلا لحسن النية ، وإخلاص الطوية " انتهى من " فتاوى الرملي " (4 / 262) .
ومحل اعتماد قول الشيخين ( النووي والرافعي ) ما لم يجمع المتأخرون على أن ما قالاه سهو , وإلا فالمعتمد حينئذ ما قاله المتأخرون , جاء في " تحفة المحتاج في شرح المنهاج "(1 / 39) : " الكتب المتقدمة على الشيخين ( النووي والرافعي ) لا يعتمد شيء منها إلا بعد مزيد الفحص والتحري , حتى يغلب على الظن أنه المذهب , ولا يغتر بتتابع كتب متعددة على حكم واحد , فإن هذه الكثرة قد تنتهي إلى واحد , ألا ترى أن أصحاب القفال أو الشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرعون ويؤصلون إلا على طريقته غالبا ، وإن خالفت سائر الأصحاب ، فتعين سبر كتبهم , هذا كله في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما ، وإلا فالذي أطبق عليه محققو المتأخرين , ولم تزل مشايخنا يوصون به وينقلونه عن مشايخهم , وهم عمن قبلهم وهكذا: أن المعتمد ما اتفقا عليه ، أي ما لم يُجمع متعقبو كلامهما على أنه سهو ، وأنَّى به " انتهى.
بل قد نص بعض فقهاء الشافعية وهو الشهاب الرملي على أن أنه لو تعارض نص للإمام للشافعي صاحب المذهب مع كلام الشيخين قُدِّم كلام الشيخين على كلام الإمام , جاء في " فتاوى الرملي " (4 / 263) : " وترك الشيخين لذكر النص المذكور ( نص الشافعي ) لكونه ضعيفا أو مفرعا على ضعيف , وقد ترك الأصحاب نصوصه الصريحة ، لخروجها على خلاف قاعدته , وأوَّلوها ؛ كما في مسألة : من أقر بحريته ، ثم اشتراه ، لمن يكون إرثه ؟ فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص ، ولا يقال : لم يطلعوا عليها ، فإنها شهادة نفي , بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها ، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل , ولا يخرجون بذلك عن متابعة الشافعي , كما أن المجتهد يصرف ظاهر نص الشارع إلى خلافه ، لذلك ، ولا يخرج بذلك عن متابعته , وفي هذا كفاية لمن أنصف" انتهى.
وظل الأمر هكذا على مدى ثلاثة قرون من وفاة الشيخين ، من القرن السابع وحتى القرن العاشر الهجريين ، إلى أن ظهر بعض الجهابذة المحققين في المذهب , وظهر ما يمكن تسميته بالتحرير الثاني للمذهب , وانتهى الأمر إلى اعتماد " تحفة المحتاج " لابن حجر الهيتمي , و " نهاية المحتاج " للرملي في حق من لم يكن من أهل الترجيح , جاء في مقدمة الدكتور عبد العظيم الديب " لنهاية المطلب في دراية المذهب "
( المقدمة / 156) : " وعلى طول القرون الثلاثة ، منذ وفاة الشيخين الرافعي والنووي في القرن السابع إلى القرن العاشر ، ظل الحال كما وصفنا ؛ فقد كانت كتب الشيخين القطبَ الذي تدور حوله جميع التآليف ، ومع ذلك لم يخل زمان من محقِّقٍ ينظر في كلام الشيخين، فيرجِّح بينهما إذا اختلفا، بل يخالفهما أحياناً.
وحظي القرن العاشر بعددٍ من هؤلاء المحققين ، جمعوا إلى تحقيقاتهم تحقيق من سبقوهم، من هؤلاء : شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة (926)هـ , والخطيب الشربيني ، صاحب " مغني المحتاج " المتوفى سنة ( 977 ) هـ , والشهاب الرملي صاحب " فتح الجواد " المتوفى سنة ( 957 ) هـ , وابنه شمس الدين الرملي، صاحب " نهاية المحتاج " ، المتوفى ( 1004 ) هـ , وابن حجر الهيتمي ، صاحب " تحفة المحتاج " المتوفى (974) هـ , هؤلاء المحققون وغيرهم كان لهم من الجهد ما يمكن أن نسميه التحرير الثاني للمذهب فقد أدى اجتهادهم إلى مخالفة الشيخين في شيءٍ من ترجيحاتهما؛ وانتهى الأمر إلى اعتماد " التحفة " لابن حجر، " والنهاية " للشمس الرملي ، في حق من لم يكن من أهل الترجيح ، فمن كان من أهل الترجيح ، والقدرة على النظر في الأدلة ووزنها وتقديرها : له أن ينظر في كلام الرافعي والنووي ، فيرجح ويختار كما اختار الرملي وابن حجر، ولا يجوز له أن يعدو الرافعي والنووي إلى من فوقهما؛ لما استقر عليه المحققون طوال القرون الثلاثة على أنه لا يجوز العدول عن قولهما.
فإذا لم يكن من أهل الترجيح ، فكما قلنا: يلزمه اعتماد " تحفة المحتاج " لابن حجر، " ونهاية المحتاج " للشمس الرملي، لا يعدوهما، فإن اتفقا : فلا كلام ، وإن اختلفا يختار أيَّهما، على خلافٍ فيمن هو أولى بالتقديم منهما بين علماء الشام وحضرموت ، والأكراد ، وداغستان ، وأكثر اليمن والحجاز الذين يقدمون ما في تحفة ابن حجر، وعلماء مصر الذين يقدمون ما في " النهاية " للرملي انتهى باختصار .
والخلاصة في هذه المسألة أن قول الفقهاء : هذا هو المذهب الفلاني , لا يشترط فيه إجماع فقهاء المذهب , ولا كون من قاله في القرون الثلاثة الأولى , ولكنه اصطلاح يقصد به أن هذا القول هو قول المحققين الذين حرروا المذهب وقرروه .
ثانيا :
قدماء أئمة المذهب المالكي كانوا على عقيدة أهل السنة والجماعة , نذكر منهم على
سبيل المثال:
1- أصبغ بن الفرج , قال ابن القيم في " اجتماع الجيوش الإسلامية " (2 / 142) : "
قال أصبغ : وهو سبحانه مستو على عرشه , وبكل مكان علمه وإحاطته , وأصبغ من أجل
أصحاب مالك وأفقههم" انتهى .
2- أبو محمد ابن أبي زيد عبد الله القيرواني المالكي , قال - رحمه الله - في رسالته
المشهورة " وأنه سبحانه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه" انتهى من "
الرسالة " للقيرواني (1 / 5) , وقال عنه الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (17 / 12)
: "وكان - رحمه الله - على طريقة السلف في الأصول ، لا يدري الكلام ، ولا يتأول"
انتهى .
3- أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى المعروف بابن زمنين , قال - رحمه الله -
" ومن قول أهل السنة : أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع
ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء ، كما أخبر عن نفسه في قوله : الرحمن على العرش
استوى" انتهى من " أصول السنة "لابن أبي زمنين (1 / 88).
4- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر, قال في " التمهيد " (7 / 129)
"...... وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما
قالت الجماعة " انتهى , وقال أيضا في " التمهيد " (7 / 134) : " ومن الحجة أيضا في
أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع : أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم ،
إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة : رفعوا وجوههم إلى السماء ، يستغيثون ربهم تبارك
وتعالى , وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته
لأنه اضطرار" انتهى.
ثالثا:
بخصوص مسألة حلق اللحية في المذهب الشافعي , فقد كره النووي والرافعي – رحمهما الله
– حلقها مخالفين بذلك جماهير أهل العلم القائلين بحرمة حلقها , جاء في " تحفة
المحتاج في شرح المنهاج " (9 / 376) : " قال الشيخان يكره حلق اللحية ، واعترضه ابن
الرفعة في حاشية الكفاية بأن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - نص في الأم على
التحريم , قال الزركشي : وكذا الحليمي في " شعب الإيمان " ، وأستاذه القفال الشاشي
في " محاسن الشريعة " , وقال الأذرعي : الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها"
انتهى.
والقول بكراهة حلق اللحية : قول ضعيف مرجوح , والراجح : هو حرمة حلقها ، كما ذهب إليه جمهور أهل العلم , بل ذكر بعض العلماء ذلك إجماعا كما بيناه في الفتوى رقم: (137251).
والله أعلم.
تعليق