تساؤلاتي هي تساؤلات تدور في أذهان كثير من الإناث: هل نحن الإناث خُلقنا من أجل عبادة الله ، ومن ثم لنكون متعة ولذة وشهوة الرجال ؟ هل خلقنا الله من أجل أن نكون تكملة لحياة الرجال في الأساس ، فنخدمهم بقضاء شهوتهم بالحلال، فلهذا يتزوجوننا، والناس كثيرا عندما يتكلمون عن المرأة لا يتكلمون إلا عن جمالها وجسدها، وكأنها صورة ، وليست روحا تشعر ، وترغب بأن يحبها الناس، وأن يحبها زوجها من أجلها هي، من أجل شخصيتها وأخلاقها وسلوكها؟ أنا لا أقول بأن الجمال غير مهم إطلاقا، فحتى نحن النساء نحب أن يكون شريكنا متزينا مرتبا لنا مثل ما يحب هو. ولكن لا يكون الجمال هو الأساس وكأننا لسنا إلا جسدا ، عندما أفكر بهذه تجتاحني كآبة قوية، وأشعر بأنني لا فائدة مني إلا أن أمتع الرجل ، فإذا استثنينا أن المرأة تحمل وتلد، وأنها أم ، فهل حقا خلقت المرأة من أجل أن تكون متعة الرجل في الدنيا والآخرة ، وأن خلق حواء من ضلع آدم يعبر عن أنها جزء وتكملة له ، وأن الأمومة هي الشيء الوحيد الذي يميز المرأة ويجعلها لغير الشهوة ؟
الحمد لله.
جوابنا بكل وضوح وتلقائية على أسئلتك المتتالية : هو أنه ليس صحيحا إطلاقا أن المرأة خلقت لعلة غائية جسدية، أو لأهداف دونية شهوانية، لأجل أن تكون متعة للرجل أو محلا لملذاته.
هذا ليس تصورا خاطئا فحسب، بل نراه مفهوما مرتكسا في حبائل النفس الأمارة بالسوء، ومنتكسا في الشهوات التي تطغى على تفكير الكثير من الناس، حين يفقدون بوصلتهم الحقيقية في غاية الخلق والحياة.
ونحن هنا ننطلق معك من إسلامنا الذي يظلنا جميعا والحمد لله، ونستيقن أنه الدين الكامل الذي يعبر عما يريده الله عز وجل من هذا الخلق كله، عبادةً، وعملًا، واعتقادًا، وأخلاقًا.
فنعلم من خلاله أن الغاية الأساسية لخلق الإنس والجن – ذكورهم وإناثهم – هو الصلاح بالإرادة الحرة والعقل المستقل الذي هو مناط التكليف، وفي جميع جوانب الحياة، صلاح العبادة، وصلاح الأعمال، وصلاح الأخلاق، وصلاح العلم والفهم والتصورات، إلى قمة الارتقاء الممكن في هذه الروح البشرية، نحو معالي الأمور ومكارمها، واجتناب كل صور الفساد والظلم والجهل وسوء الأخلاق والأعمال، تعبدا لله تعالى، وتقربا إليه، ومحاولة لبلوغ الكمال البشري الممكن الذي يحبه الله لنا، فنسعى لأجله بجميع كلياتنا وقلوبنا وعقولنا، وتملأ علينا غايتنا هذه همومنا وأفكارنا، ونقضي لأجلها أعمارنا، ونفني بها أموالنا وطاقات أجسادنا، حتى نبلغ الحياة الحقيقية الكاملة، دار الحيوان كما سماها القرآن، لا فرق في هذا المفهوم الكلي بين الذكور والإناث إطلاقا.
يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام/161-163.
فيا ترى أين ترين شهوة الجسد – للذكر أو الأنثى – من هذا المنهج ، والطريق القويم ؛ وهل تجدين لها محلا يذكر في أي محور من محاور الغايات الجليلة هذه!
إن نظرة منصفة بعيدة عن تأثيرات الرهاب المجتمعي الذي تسببه المفاهيم المغلوطة لدى الناس، ستقودك حتما إلى إدراك أن الجسد – وما يشتمل عليه من آفات النقص والشهوات – لا مكان له في منظومة القيم التصورية عن غايات خلق الإنسان وحكمة وجوده، ومكان الجسد إنما يتحقق في جانب الوسائل والأدوات التي يمكن أن تساعد في تحقيق هذه الغاية، ولكنها لا تبلغ درجة أعلى من درجة الوسيلة، بل وليست الوسيلة الحصرية، ولا الوحيدة، وإنما إحدى الوسائل التي تتفاوت في الناس من حيث القدرة والقوة، والصحة والمرض، اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعلها وسيلة جاذبة، كي تُسَخَّر في سبيل بقاء الذرية وعمارة الأرض، وفي سبيل تحقيق المودة والرحمة في البيوت، وفي سبيل خلق توازن الابتلاء، فيعلم الله المفسد من المصلح. قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الروم/21.
ولكننا لو استقرأنا الآيات القرآنية كلها، والأحاديث النبوية من أولها حتى آخرها، لن نجد دليلا واحدا يشير إلى أن غاية خلق المرأة أن تكون متعة الرجل في الدنيا والآخرة، كما لن نجد دليلا واحدا يفرق بين الرجل والمرأة في الغايات النبيلة والسامية لخلقهم ووجودهم، بل هم جميعا في ذلك سواء؛ لأن العقل – الذي هو مناط التكليف ومستودع الإرادة الحرة – وَهَبه الله عز وجل لكلا الجنسين، فكان كلاهما مخاطبًا بجميع النصوص الربانية التي ترسم للإنسانية منهاج مسيرها نحو المعالي، وطريق سيرها نحو سعادة الدنيا والآخرة.
وكذلك لو تأملت في السيرة النبوية - وهي تمثل النموذج البشري الأسمى في امتثال غاية خلق الإنسان - لعلمت أن صورة "الجسد" لا يمكن أن تؤخذ خارج إطارها الحقيقي، إطار "الوسائل"، وأن الغايات الأسمى تتلخص في التقوى والعمل الصالح.
يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13.
ويقول جل وعلا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/97.
ويقول عز وجل: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الأحزاب/35.
ويقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) التوبة/71 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) رواه مسلم في "صحيحه" (2564) .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر، وباطن:
فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده، وموضع محبته، وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة، وإن لم تكن ذات جمال، فتكسو صاحبَها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحُه من تلك الصفات، فإن المؤمن يُعطَى مهابةً وحلاوةً بحسب إيمانه، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود أو غير جميل، ولا سيما إذا رزق حظا من صلاة الليل، فإنها تُنَوِّرُ الوجه وتحسنه" انتهى من "روضة المحبين" (221-223) .
ومن أشهر الأدلة التي تبين لك أن الجسد ليس هو المناط في تقدير شخصية المرأة حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظفَر بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَت يَدَاكَ) رواه البخاري (4802) ، ومسلم (1466)
يقول النووي رحمه الله:
"الصحيح في معنى هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين" انتهى من "شرح مسلم" (10/52) .
والحاصل : أننا نربأ بأحد من المسلمين أن يتشوه مفهومه لجنس الأنوثة في إطار شهوة الجسد، فهو إطار دوني أرضي لا يقترب من المعاني السامية التي علمنا إياها القرآن الكريم، وأكدها لنا رسولنا عليه الصلاة والسلام.
والله أعلم.