كيف يقول العلماء إن النور انعكاس الضوء في حين أن الله نور؟

01-03-2017

السؤال 255524


أنا مهتمٌ بالإسلام ، ولكني في حيرةٍ من أمري ؛ لأن الله يقول: إن القمر نور، فكيف يقول العلماء إن النور هو انعكاس الضوء ، في حين أنّ الله نور ، أرجو المساعدة ، فأنا متلهفٌ لمعرفة الإسلام ؟

الجواب

الحمد لله.


كثيرا ما ترد الحيرة على الباحث بسبب الاقتصار على جزء من المعلومة ، ونقص المعرفة بالأجزاء الأخرى المهمة منها، التي ينبني عليها تأثير كبير في فهم الفكرة والموضوع، لذلك كان جمع المعلومات، والتحقق منها، من أهم خطوات المنهجية العلمية السليمة.
واستشكال وجه كون النور صفة لله عز وجل، رغم أنه انعكاس للضوء، وليس نورا ذاتيا، هو مثال مهم على ما ندعو إليه دائما، من التأمل والتأني قبل التصديق بالشبهات. ونحن نبين خطأ هذا الاستشكال هنا من أوجه عديدة:
أولا:
أكثر علماء اللغة والتفسير لا يقر بأن النور هو انعكاس عارض للضوء، وليس نورا ذاتيا، ويقولون إن هذا التعريف إنما هو عرف عن الفلاسفة والحكماء المشتغلين بعلوم الفلك والطبيعة، أما اللغة والقرآن فليس فيهما ما يدل على هذا التعريف، فلا يرد الإشكال أصلا بناء عليه. خاصة وقد قال كثير من أهل اللغة – كابن السِّكِّيت – بأن النور والضياء مترادفان، ولا يعرف التفريق بينهما في أصل اللغة. وما وقع في القرآن الكريم من إطلاق الضياء للشمس، والنور للقمر، إنما وقع من باب تنويع العبارة، وتفنن الإشارة بالمترادفات، وهذا شائع في اللغة العربية، والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
يقول أبو هلال العسكري رحمه الله:
"الفرق بين الضياء والنور: هما مترادفان لغة" انتهى من "معجم الفروق اللغوية" (ص: 332).
ويقول ابن أبي الحديد:
"فنقول له: لم قلت إن الضوء نور وزيادة. أَمِن كتب اللغة أخذت هذا. أم من غيرها. فقد تصفحنا كتب اللغة فلم نجد ما نشاهده بما ذكرت، ولا الاصطلاح مساعد لك في عرف الناس ومواضعاتهم.
وإذا لم يكن موجودا في أصل اللغة، ولا الاصطلاح العرفي، لم يجز لك أن تحمل كلام الله تعالى عليه، وتُفسِّره به.
وقد قال ابن السكيت في كتاب إصلاح المنطق -وهو عين الكتب اللغوية، ومصنفه إمام الناس كلهم في اللغة، ومن لا يختلف اثنان في كتبه- في باب فعل وفعل باختلاف المعنى: النور: الضياء.
[ فقد جعلهما ] شيئا واحدا.
وليس في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) ما يدل على اختلاف المعنيين، ولا قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ما يدل على اختلاف المعنيين" .
انتهى من "الفلك الدائر على المثل السائر" (4/ 233) .
ثانيا:
ثم إن كثيرا من اللغويين والمفسرين يقولون إن النور لا يصحبه إحراق ولا أذى، وإنما هو الإشراق النقي الذي يضيء ما حوله، سواء بالنور الحسي أم المعنوي، ولهذا كان الأنسب أن يوصف الله عز وجل بأنه "نور" كما يليق بجلاله من غير تشبيه، وليس بأنه "ضياء"، ورفضوا – بطبيعة الحال – القول بأن النور انعكاس للضوء، مستمد من غيره.
يقول السمرقندي رحمه الله:
"جعل الشمس ضياء مع الحر، والقمر نوراً بلا حر" انتهى من " بحر العلوم" (2/ 104) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله:
"ولفظ الضياء والنور ونحو ذلك ، يراد به الشيء بنفسه المستنير، كالشمس والقمر وكالنار، قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) [يونس: 5] وقال: (وجعلنا سراجا وهاجا) [النبأ: 13] وسمى سبحانه الشمس سراجا وضياء؛ لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا، فهي بالنار أشبه، بخلاف القمر، فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخين، فلهذا قال: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا) [يونس: 5]
والمقصود هنا، أن لفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه، كالشمس والقمر والنار، ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض، وهذا الثاني عرض قائم بغيره ليس هو الأول، ولا صفة قائمة بالأول، ولكنه حادث بسببه" .
انتهى من "الجواب الصحيح" (4/ 368) .
ويقول ابن رجب رحمه الله:
"الضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق، كضياء الشمس، بخلاف القمر، فإنه نور محض، فيه إشراق بغير إحراق، قال الله عز وجل: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) [يونس: 5] [يونس: 5]
ومن هنا وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء، كما قال: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) [الأنبياء: 48] [الأنبياء: 48]، وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا كما قال: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) [المائدة: 44] [المائدة: 44]، ولكن الغالب على شريعتهم الضياء، لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال. ووصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها نور؛ لما فيها من الحنيفية السمحة، قال الله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) [المائدة: 15]. وقال: (واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف: 157]. ولما كان الصبر شاقا على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه، كان ضياء" .
انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/ 24).
ثالثا:
مِن العلماء مَن يقرر أن النور هو أصل الضوء ومبدؤه ، فناسب أن يوصف الله عز وجل بأنه النور؛ لأنه المتصف بذاته بصفات الكمال من غير إحداث ولا إيجاد موجد، ولأنه الخالق الموجد لنور الكون وضيائه المنتشر.
يقول السهيلي رحمه الله – معلقا على شطر من الشعر: يظهر في البلاد ضياء نور -:
"هذا البيت يوضح لك معنى النور ومعنى الضياء، وأن الضياء هو المنتشر عن النور، وأن النور هو الأصل للضوء، ومنه مبدؤه، وعنه يصدر، وفي التنزيل: (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) [البقرة: 17] . وفيه: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا) [يونس: 5] لأن نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس، [و] لا سيما في طرفي الشهر. وفي الصحيح: (الصلاة نور، والصبر ضياء) وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات ، والصبر على الطاعات : هو الضياء الصادر عن هذا النور، الذي هو القرآن والذكر. وفي أسماء الباري سبحانه: (الله نور السماوات والأرض) [النور 35] ولا يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه" انتهى من "الروض الأنف" (2/164).
رابعا:
حتى لو قلنا بقول الحكماء والفلاسفة بأن النور هو انعكاس الضوء، وأنه عرضي وليس ذاتيا متولدا من نفسه، فهذا إطلاق على المخلوق الناقص، وليس على الخالق الكامل جل وعلا، وكلمة "النور"، تتفاوت دلالتها، ويختلف إطلاقها في اللغة العربية بحسب سياقها وما أضيفت إليه، فنور الوجه مثلا ليس كنور القمر من حيث السطوع والإشراق، ونور العلم والعقل ليس كنور الحس والضوء، فالأول معنوي والثاني مرئي. ونور المصباح ليس كنور الشمعة قوة ووضوحا.
ونور الخالق صفة كمال لا تحتمل النقص بوجه من الوجوه، فلا تحتمل أبدا ما يطرأ على النور الكوني المخلوق، من كونه انعكاسا، أو عرضيا، أو ضعيفا، بل هو نور تام كامل غير مخلوق ولا ناقص، يليق بكمال الله وجلاله. ولا يليق أن يقارن "النور" الكوني، بـ"النور الإلهي".
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
" فيا عجبا لكم: أنكرتم أن يكون الله سبحانه نور السماوات والأرض حقيقة، وأن يكون لوجهه نور حقيقة، ثم جعلتم نور الشمس والقمر والمصابيح نوره حقيقة، وقد علم الناس بالضرورة فساد هذا، وأن نوره المضاف إليه يختص به لا يقوم بغيره، فإن نور المصباح قام بالفتيلة منبسطا على السقوف والجدران، وليس ذلك هو نور الرب تعالى الذي هو نور ذاته ووجهه الأعلى، بل ذلك هو المضاف إليه حقيقة، كما أن نور الشمس والقمر والمصابيح مضاف إليها حقيقة، قال تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا [يونس: 5] وقال تعالى: وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [الفرقان: 61] وقال تعالى: الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [الأنعام: 1] .
فهذا نور مخلوق قائم بجرم مخلوق لا يسمى به الرب تعالى ولا يوصف به ولا يضاف إليه إلا على جهة أنه مخلوق له ، مجعول ، لا على أنه وصف له قائم به .
فالتسوية بين هذا وبين نور وجهه الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة واستعاذ به العائذون : من أبطل الباطل. " انتهى من "مختصر الصواعق المرسلة" (424) .

وقد كان أحد أهم أسباب ضلال الفرق في باب الأسماء والصفات : أنهم لم يميزوا بين ما يضاف لله ، وما يضاف للخالق ، ولم يفقهوا الفرق بين الحقائق المختلفة ، التي يطلق عليها اسم واحد ، مشترك الدلالة على جميعها ، في الوضع اللغوي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات .. " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/664) .
ومعلوم أن الكلمة في اللغة العربية تطلق باعتبارات عديدة ، وبمعان متفاوتة، ولا تفهم – في جميع مواردها – بمعنى واحد متساو في الدلالة ، هذا من المعلومات الأساسية في فهم اللغات عامة، واللغة العربية خاصة. فكلمة الظلمة تطلق على ظلمة أول الليل، وعلى ظلمة منتصف الليل، ولكن الظلمة الأولى ليست كالظلمة الأخرى ، والظلمة في ليلة البدر ليست كالظلمة في غياب القمر، رغم أنها كلمة واحدة هي "الظلام"، ولكنها تتفاوت في المعنى من حيث القوة والضعف.
وكلمة "رب" أيضا تطلق على "رب الأسرة"، الذي هو القيم على شؤونها ورعايتها والإنفاق عليها، وتطلق على الله الخالق جل وعلا؛ الذي هو رب كل شيء ومليكه، فهي كلمة واحدة، ولكن يتفاوت مضمونها بحسب ما تطلق عليه من السياق والمقصد ، وهكذا وصف الله بأنه "نور السماوات والأرض"، لا يجوز أن يظن به أنه كنور القمر أو أي من أنوار الكون المخلوقة، بل هو سبحانه وتعالى متصف بالنور الكامل الذي ليس كمثله شيء، وليس فيه نقص بوجه من الوجوه، وصفات الله تعالى كلها صفات كمال وجلال تليق بجلاله.
ولهذا كان الواجب على الناظر في مثل هذه المقامات : أن يكون على بينة من لسان العرب ، وعلم بطرائق أهله في التعابير ، وما قد يدخل بعد ذلك من الاصطلاحات ، ومواضعات العلوم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
"معرفة اللغات والعرف الذي يخاطب بها كل مخاطب : من أهم ما ينبغي الاعتناء به في فهم كلام المتكلمين ، وتفسيره وتأويله ومعرفة المراد ؛ به فإن اللغة الواحدة تشتمل على لغة أصلية ، وعلى أنواع من الاصطلاحات الطارئة ، الخاصة والعامة .
فمن اعتاد المخاطبة ببعض تلك الاصطلاحات يعتقد أن ذلك الاصطلاح هو اصطلاح أهل اللغة نفسها ، فيحمل عليه كلام أهلها ، فيقع في هذا غلط عظيم .
وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء .
فعلينا أن نعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخاطب بها ، خصوصًا ؛ فإنها هي الطريق إلى معرفة كلامه ومعناه ، حتى إن بين لغة قريش وغيرهم فروقًا ، من لم يعرفها ، فقد يغلط في ذلك " انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (7/400) .
وأخيرا ثمة أوجه أخرى في الجواب، ذكرها العلماء في مطولات كتب التفسير والحديث والعقائد، لم نشأ الإطالة بها على السائل كي لا يخرج الجواب عن حد القصد والاعتدال.
والعبرة التي نحث على الخروج بها دائما في مثل هذه القضايا، هي ضرورة بذل الباحث جهده في لملمة أطراف الموضوع ، وتجنب الاغترار بنقل واحد أو بالفكرة الواحدة ، فالعلاج دائما في التكاملية التي تكشف لنا حقائق اللغة ، وروائع البيان، ونستبين من خلالها أن أسباب الحيرة والاشتباه لا مكان لها في عقل البحث الواعي والمنفتح .
والله أعلم.

تفسير القرآن
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب