الحمد لله.
الطبيب إذا أعطى المهنة حقها، فعالج وفق ما يقضي به الطب، فلم يصف دواء خاطئا، ولم تجن يده، وكان بإذن المريض أو وليه : فلا ضمان عليه اتفاقا؛ لأن فعله مأذون فيه شرعا . والقاعدة : أن ما ترتب على المأذون ، فهو غير مضمون.
قال ابن القيم رحمه الله مبينا أقسام الأطباء ، ومن يضمن ، ومن لا يضمن:
الأقسام خمسة :
أحدها : طبيب حاذق ، أعطى الصنعة حقها ، ولم تجنِ يدُه ، فتولَّد من فعله ، المأذون فيه من جهة الشارع ، ومن جهة من يَطُبُّه : تلفُ العضو ، أو النفس ، أو ذهاب صفة : فهذا لا ضمان عليه ، اتفاقاً ؛ فإنها سِرايةُ مأذونٍ فيه [السِّرَاية : ما ترتب على الفعل ونتج منه] ، وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت ، وسنُّه قابل للختان ، وأعطى الصنعة حقها ، فتلف العضو ، أو الصبي: لم يضمن ...
القسم الثاني : متطبِّب جاهل ، باشرت يدُه من يطبه ، فتلف به : فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له ، وأذن له في طبه : لم يضمن ، ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث ؛ فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غرَّ العليل ، وأوهمه أنه طبيب ، وليس كذلك ، وإن ظن المريض أنه طبيب ، وأذن له في طبِّه لأجل معرفته : ضمِن الطبيب ما جنت يدُه ، وكذلك إن وصف له دواء يستعمله ، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته ، وحذقه ، فتلف به : ضمنه ، والحديث ظاهر فيه ، أو صريح .
القسم الثالث : طبيب حاذق ، أُذن له ، وأَعطى الصنعة حقها ، لكنه أخطأت يدُه ، وتعدَّت إلى عضو صحيح ، فأتلفه ، مثل : أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرة - وهي : رأس الذَّكَر- : فهذا يضمن ؛ لأنها جناية خطأ ، ثم إن كانت الثلث فما زاد [أي كانت الجناية توجب ثلث الدية فأكثر] : فهو على عاقلته ، فإن لم تكن عاقلة : فهل تكون الدية في ماله ، أو في بيت المال ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد... فإن لم يكن بيت مال، أو تعذر تحميله، فهل تسقط الدية، أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
القسم الرابع : الطبيب الحاذق الماهر بصناعته ، اجتهد ، فوصف للمريض دواءً ، فأخطأ في اجتهاده ، فقتله : فهذا يخرَّج على روايتين ، إحداهما : أن دية المريض في بيت المال ، والثانية : أنها على عاقلة الطبيب ، وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطأ الإمام ، والحاكم .
القسم الخامس : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقَّها ، فقطع سِلْعة – لحمة زائدة - مِن رجُل ، أو صبي ، أو مجنون ، بغير إذنه ، أو إذن وليه ، أو ختن صبيّاً بغير إذن وليه ، فتلف ، فقال أصحابنا : يضمن ؛ لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه ، وإن أذِن له البالغ ، أو ولي الصبي ، والمجنون : لم يضمن .
ويحتمل أن لا يضمن مطلقاً ؛ لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل .
وأيضاً : فإنه إن كان متعديّاً : فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان ، وإن لم يكن متعديّاً : فلا وجه لضمانه .
فإن قلت : هو متعدٍّ عند عدم الإذن ، غير متعد عند الإذن ؟
قلت : العدوان ، وعدمه ، إنما يرجع إلى فعله هو ، فلا أثر للإذن وعدمه فيه ، وهذا موضع نظر" انتهى من "زاد المعاد" (4/128 – 130) .
ثانيا:
المرجع في كون الطبيب قد اختار الدواء المناسب، كما وكيفاً، إلى الأطباء.
وعليه، فإذا قال ثلاثة من الأطباء الثقات : إن ما قمت به من حقن المريض بالقليل من الكالسيوم ، كان هو المناسب لحالته : فقد أديت ما عليك، ولا ضمان حينئذ ؛ فلا يلزمك دية ، ولا كفارة.
جاء في الموسوعة الفقهية (12/ 138): " .. فلا ضمان على طبيب وبزاغ (جراح) وحجام وختان ما دام قد أذن لهم بهذا ولم يقصروا، ولم يجاوزوا الموضع المعتاد، وإلا لزم الضمان...
وفي "القُنْيَة" ـ من كتب الأحناف ـ : سئل محمد نجم الدين عن صبية سقطت من سطح، فانفتح رأسها، فقال كثير من الجراحين: إن شققتم رأسها تموت. وقال واحد منهم: إن لم تشقوه اليوم تموت، وأنا أشقه وأُبرئها، فشقه، فماتت بعد يوم أو يومين. هل يضمن؟
فتأمل مليا ، ثم قال: لا، إذا كان الشق بإذن، وكان الشق معتادا، ولم يكن فاحشا خارج الرسم (أي العادة) .
قيل له: فلو قال: إن ماتت فأنا ضامن، هل يضمن؟
فتأمل مليا، ثم قال: لا.
فلم يَعتبر شرط الضمان؛ لأن شرطه على الأمين باطل، على ما عليه الفتوى... " انتهى .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: " إذا كان الطبيب حاذقاً ، وأعطى الصنعة حقَّها ، ولم تجن يده ، أو يقصر في اختيار الدواء الملائم بالكمية، والكيفية ، فإذا استكمل كل ما يمكنه ، ونتج من فعله المأذون من المكلف ، أو وليِّ غيرِ المكلف ، تلف النفس ، أو العضو : فلا ضمان عليه ، اتفاقاً ؛ لأنها سراية مأذون فيها ، كسراية الحد ، والقصاص" انتهى من فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (8/104).
وينظر في اعتبار شهادة ثلاثة أطباء: فتاوى اللجنة الدائمة (25/ 80)، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (11/ 254)، وجواب السؤال رقم (175020) في الموقع .
والله أعلم.