أمثلة لتعسف بعض القراء في الوقف والابتداء
هل يجوز للقارئ لهذه الآية : ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) ) .
أن يقرأها هكذا..." ....... لمن الملك اليوم ... الملك اليوم لله الواحد القهار )؟
الجواب
الحمد لله.
أولًا:
فإن الوقف والابتداء من علوم القرآن المجيد ، وهو من العلوم التي تحتل مكانة بارزة
، قال ابن الأنباري : " ومن تمامِ مَعرفةِ القرءانِ معرفةُ الوقف والابتداء ، إذ لا
يتأتى لأحدٍ معرفة معاني القرءان إلا بمعرفة الفواصل ، فهذا أدلُّ دليل على وجوبِ
تعلُّمِه وتعلِيمه ".
انتهى من " منار الهدى" (ص 5 - 6).
ثانيًا:
إنَّ من العلوم المهمَّة لمن أراد أن يعرف الوقف والابتداء : علم التفسير ، وعلم
النحو، وعلم القراءات؛ لأنَّ المعنى يُعرف بها، قال ابن مجاهد (ت324هـ): " لا يقوم
بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءة ، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض
، عالم باللغة التي نزل بها القرآن» انتهى من " القطع والائتناف " (ص94).
وإذا تأمَّلت هذه العلوم وجدتها ترجع إلى معرفة المعنى الذي هو أساس علم الوقف
والابتداء، فمعرفة التفسير واختلافات المفسرين يُعرف بها المعنى ، فيعرف الواقف أين
يقف بناءً على هذا التفسير أو ذاك.
ومن أشهر الأمثلة التي يُمثَّل بها في هذا المقام تفسير قوله تعالى: ( وَمَا
يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) آل عمران/ 7 ، فمن فسَّر التأويل بما
تؤول إليه حقائق القرآن فإنه يقف على لفظ الجلالة ؛ لأن علم الحقائق مما يختصُّ به
الله ، ومن ادعى علمه فقد كذب على الله.
ومن فسر التأويل بالتفسير جاز له أن يصل لفظ الجلالة بما بعده ، ويقف على لفظ (العلم)
؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره.
وأنت تلحظ في هذا المقام كيف اختلف الوقف باختلاف التفسير، وأصل ذلك راجع إلى
المعنى المراد بالتأويل ، فالمعنى أولاً ، ثمَّ يجيء الوقف تبعاً للمعنى ، انظر: "
المحرر في علوم القرآن " د. مساعد الطيار: (253).
ثالثًا:
يقول الإمام ابن الجزري : " ليس كل ما يتعسفه بعض المُعْرِبين ، أو يتكلفه بعض
القراء ، أو يتأوله بعض أهل الأهواء ، مما يقتضي وقفا وابتداء : ينبغي أن يُتَعمد
الوقفُ عليه ، بل ينبغي تحري المعنى الأتم ، والوقف الأوجه .
وذلك نحو الوقف على وارحمنا أنت، والابتداء مولانا فانصرنا على معنى النداء .
ونحو ثم جاءوك يحلفون ثم الابتداء بالله إن أردنا .
ونحو وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك ثم الابتداء بالله إن الشرك
على معنى القسم.
... فإن ذلك وما أشبهه : تمحل ، وتحريف للكلم عن مواضعه ؛ يعرف أكثره بالسباق
والسياق" . انتهى بتصرف من "النشر" (1/ 231 - 232).
رابعًا:
وقد ذكر العلماء أن الوقف على السؤال في قوله تعالى: ( لمن الملك اليوم؟ )، جائز
وحسن ، قال الأشموني : " والجائز: هو ما يجوز الوقف عليه وتركه ، نحو: وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، فإنَّ واو العطف تقتضي عدم الوقف ، وتقديم المفعول على
الفعل يقتضي الوقف ؛ فإن التقدير : ويوقنون بالآخرة؛ لأن الوقف عليه يفيد معنى .
وعلامته : أن يكون فاصلًا بين كلامين من متكلمين، وقد يكون الفصل من متكلم واحد
كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ الوقف جائز فلما لم يجبه أحد أجاب نفسه بقوله:
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " .
انتهى من " منار الهدى" (1/ 28).
فالحاصل : أن الوقف على السؤال في قوله تعالى: لمن الملك اليوم؟ كاف، لأنه تمام
السؤال، أما الابتداء بقوله: الملك اليوم لله الواحد القهار فغير حسن، لأنه مخالف
لمقتضى البلاغة، إذ مقتضاها ألا يذكر المبتدأ في جواب السؤال .
قال الأستاذ عبد الرحمن العليان ، حفظه الله :
"ونوع آخر من التكلف، وهو إعادة بعض جملة الاستفهام في الجواب، كقوله تعالى:
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فالاستفهام في هذه
الآية هو قوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، ثم أجاب الحقُّ - سبحانه- نفسه:
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .
فبعض الأئمة ربما قرأها هكذا (لمن الملك اليوم) ثم أعاد (الملك اليوم لله الواحد
القهار) .
وهذا الفعل غلط من وجوه:
1- أن فيه استدراكا على كلام الله - تعالى-؛ فكأن هذا القارئَ أراد أن يجمِّلَ
الجواب ويكمِّله بذلك، وما علم أن الأبلغ هو تقدير المبتدأ كما سيتضح.
2- أن كون الجواب كما ذكر الله -تعالى-: (لله الواحد القهار) أبلغ؛ وذلك من جهتين:
من جهة أن تقدير الكلام المعلوم أولى من ذكره عند العرب، ومن جهة أن المقصود في
جملة الجواب هو الخبر: (لله الواحد القهار)، وذكر المبتدأ قبله تطويل.
3- أن هذا الفعل تُبْطِلُهُ اللغة - وهذا هو الأهم -؛ وَيُخِلُّ بالنظم القرآني؛
فإن قوله (الملك اليوم) إما أن يتبع ما قبله أو يتبع ما بعده، أمّا أن يتبع ما قبله
وما بعده في آن واحد : فإن هذا لا يصح.
وَيُبَيِّنُ ذلك أكثر: أن الكلمة في الجملة من اللغة العربيةِ لا تُعرَبُ إعرابَيْنِ
اثنين في آنٍ وحد، فلا تكون حالا وصفة في وقت واحد، ولا تكون مبتدأ وخبرا في آن
واحد، ولكن يجوز أن تحتمل أحد إعرابين، فيقال: هذه الكلمة إما مبتدأ أو خبر، ومثاله:
قوله تعالى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ ) البقرة/ 177، فبعض القراء نصب (البر) على أنه خبرُ ليسَ مقدمٌ،
وبعضهم رَفَعَهُ على أنه اسمُ لَيْسَ .
فهنا يقال: (البر) إما أن تكون اسم ليس، وخبرها (أن تولوا)، أو تكون خبر ليس مقدم،
واسمها (أَن تُوَلُّوا)، ولا يمكن أن يكون (البر) اسم ليس وخبرها في الوقت نفسه؛
فإن هذا تناقض.
فقوله ( لمن الملك اليوم ) ؛ (الملك) مبتدأ مؤخر لهذه الجملة ، فإذا أعاد القارئ
وقال: (الملك اليوم لله الواحد القهار) فيلزم أن تكون (الملك) هنا مبتدأ لهذه
الجملة، وهذا لا يصح". انتهى .
من مقال: " إضاءات لأئمة المساجد في الوقف والابتداء في القرآن الكريم "، للأستاذ:
عبدالرحمن العليان، منشور بموقع الألوكة .
والله أعلم .