الحمد لله.
أولا :
الإيجاد من العدم يسمى خلقا ، وكذلك المخلوقات المتولدة من مادة تسمى خلقا (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، وبعض الخلق أعجب من بعض ، فخَلْق الإنسان من ماء مهين ، يختلف عن خلق آدم من الطين ، وكله من آيات قدرة الخلاق العليم ؛ ثم تكون الحياة في ذلك "الخلق" بنفخ الروح ، التي لم يدرك كنهها ، ولم يقف على سرها ، سوى أحكم الحاكمين : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء/84
وكما أن "الإيجاد" من "العدم" يسمى خلقا ، فتحويل الشيء من صورة إلى صورة أخرى، يسمى "خلقا" أيضا ، في لغة العرب .
فإذا نسب إلى آدمي خلق ، فإنما يكون مقبولا على حد المعنى اللائق به ، وبهذا فسّر العلماء قوله تعالى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون/14.
وأما إطلاق الخلق على الإيجاد من العدم ، ونفخ الروح في الكائنات ، وتحويلها من جمادات ، إلى كائنات حية : فهذا لا يوصف به غير الله سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) النحل/ 17 ، وقال تعالى : (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فاطر/ 3 .
قال ابن الجوزي :
" فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وقوله: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ؟
فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإِيجاد، ولا موجِد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير، كقول زهير:
وبعض القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي .
فهذا المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين، وقال الأخفش: الخالقون ها هنا ، هم الصانعون، فالله خير الخالقين" انتهى من "زاد المسير" (3/258) .
وقال ابن عطية رحمه الله :
وقوله (أحسن الخالقين) معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئا : خلقه . ومنه قول الشاعر:
ولأنْتَ تَفْرِى مَا خَلَقْتَ وبَعـ * ـضُ القَوْم يَخْلُقُ ثمَّ لَا يَفْرِى
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، فقال ابن جريج: إنما قال الخالقين لأنه تعالى قد أذن لعيسى في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.
ولا تُنْفَى اللفظةُ عن البشر في معنى الصنع ، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم" انتهى من "المحرر الوجيز" (10/340) .
ثانيا :
بما أن كلا الأمرين - "الصناعة والإيجاد من العدم" - يسمى خلقا ، فقد زال الإشكال .
ويبقى اعتقادنا بأن من الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله ، وهو الخلق والإيجاد من العدم ، ومنه ما يُقْدِر اللهُ عليه بعض خلقه ، ولا يختص بالخلاق العليم سبحانه .
وهذا ليس مختصا بصفة الخلق فقط ، بل هناك غيرها من الصفات المشتركة بين الله عز وجل وخلقه ، ولكنها لله عز وجل على وجهها الأكمل على ما يليق به سبحانه وتعالى ، وللمخلوق منها ما يناسب قدراته الضعيفة الضيقة .
قال ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَقُولُ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا" أخرجه أبو عبيد "فضائل القرآن" (345) .
وجوّد إسناده ابن كثير في تفسيره (1/43) .
وينظر جواب السؤال (149122) ، (20011) .
والله أعلم .