الحمد لله.
أولا :
قد وردت أحاديث في ذم البنيان، منها ما هو صحيح ، أو حسن، ومنها ما ليس بصحيح .
فما كان منها حجة فهو محمول على ذم من فعل ذلك : للتباهي ، أو كان فيه إسراف وتبذير.
والحديث الذي ذكرت رواه أبو داود في المراسيل عن عطية بن قيسٍ قال: كان حُجَر أزْواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِجَريدِ النَّخْلِ، فَخرَج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَغْزىً له، وكانت أمُّ سلَمَة موسِرَةً، فجَعلَتْ مكانَ الجريدِ لَبِناً، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا؟ ".
قالت: أَرَدْتُ أن أكُفَّ عنِّي أبصارَ الناسِ.
فقال: "يا أمَّ سلَمة! إنَّ شَّر ما ذَهَب فيه مالُ المرْءِ المسلمِ؛ البنيانُ".
والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1180).
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ذكر جملة من هذه الأحاديث مع تخريجها والحكم عليها، فمن المناسب إيرادها هنا لأنها خلاصة وافية:
" س: أشكلت علي أحاديث قرأتها في كتب السنن، حيث إنه :
روى أبو داود مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا بد منه مما يستره من الحر والبرد والسباع ونحو ذلك .
وفي رواية أيضا للطبراني بإسناد جيد مرفوعا إذا أراد الله بعبده شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني .
وفي رواية له أيضا إذا أراد الله بعبده هوانا أنفق ماله في البنيان ، وفي رواية أيضا من بنى فوق كفايته كلف أن يحمله يوم القيامة .
وروى الدارقطني والحاكم مرفوعا وما أنفق العبد من نفقة فإن خلفها على الله والله ضامن إلا ما كان في البنيان أو معصية .
وفي الترمذي أيضا يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب، وقال في البنيان .
وروى الترمذي مرفوعا النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه .
وروى أبو داود وغيره أن العباس بنى قبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدمها، فقال يا رسول الله، إذن أتصدق بثمنها، فقال: لا، اهدمها .
وروى أبو داود أيضا وابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبة على باب رجل من الأنصار فقال: "ما هذه"؟ قالوا: قبة بناها فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ما كان هكذا فهو وبال على صاحبه"، فبلغ الأنصاري ذلك فوضعها، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهرها فسأل عنها فأخبر أنه وضعها لما بلغه عنه، فقال: "يرحمه الله يرحمه الله .
وفي رواية لابن أبي الدنيا عن عامر بن عمار مرفوعا: إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع نودي يا أفسق الفاسقين إلى أين ، انتهى.
الجواب: هذه الأحاديث التي ذكرتم نبين درجتها أولا ثم نتبع ذلك الجواب عما صح في هذا الباب. أما بيان درجة كل حديث منها فكما يلي:
1- حديث: أما إن كل بناء وبال على صاحبه : الحديث رواه أبو داود عن أنس، قال المناوي في [فيض القدير] نقلا عن ابن حجر أنه قال: رجاله موثقون إلا الراوي عن أنس، وهو أبو طلحة الأسدي: غير معروف، والشواهد عند الطبراني.
2- حديث: إذا أراد الله بعبد شرا خضّر له في اللبن والطين ، حتى يبني رواه الطبراني بإسناد جيد حسبما ذكرت في السؤال، ورمز له السيوطي في [الجامع الصغير] بالضعف. قال المناوي -نقلا عن الهيثمي -: ورجاله رجال الصحيح غير شيخ البخاري ولم أجد من ضعفه، وقال المنذري: رواه في الثلاثة -يعني الطبراني - بإسناد جيد، وقال المناوي أيضا: عزاه جمع لأبي داود من حديث عائشة، قال العراقي: وإسناده جيد.
3- حديث: "إذا أراد الله بعبد هوانا" الحديث، قال السيوطي في [الجامع الصغير] : رواه البغوي والبيهقي في [شعب الإيمان] ، عن محمد بن بشير الأنصاري وما له غيره، وابن عدي في [الكامل] عن أنس، ورمز له السيوطي بالضعف، قال المناوي في رواية محمد بن بشير: قال الهيثمي: رواه عنه ابنه يحيى إن صح، وفيه سلمة بن شريح، قال الذهبي: مجهول، وقال المناوي: في راوية ابن عدي عن أنس في ترجمة زكريا المصري الوقاد قال: يضع الحديث، كذبه صالح جزره وغيره، ولما عزاه الهيثمي إلى الطبراني قال: فيه من لم أعرفهم.
4- حديث: من بنى فوق كفايته رمز له السيوطي في [الجامع الصغير] بالضعف، وقال المناوي: قال في [الميزان] : هذا حديث منكر، وقال الحافظ العراقي: إسناده فيه لين وانقطاع.
5- حديث: وما أنفقه العبد من نفقة ، الحديث ، رواه الدارقطني والحاكم وفي سنده عبد الحميد بن حسن الهلالي، وقد ضعفه جماعة.
6- حديث: يؤجر الرجل في نفقته ، الحديث ، عزاه السيوطي في [الجامع الصغير] للترمذي عن خباب، ورمز له السيوطي بالصحة، وسكت عنه المناوي .
وروى معناه البخاري ومسلم عن خباب موقوفا بلفظ: إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي.
7- النفقة كلها في سبيل الله الحديث ، رواه الترمذي عن أنس، ورمز له السيوطي براموز الحسن، وقال الترمذي بعد روايته في أبواب صفة القيامة باب النهي عن تمني الموت، قال: غريب. وقال المناوي: قال الصدر المناوي: وفيه محمد بن حميد الرازي وزافر بن سليمان وشبيب بن بشر ومحمد، قال البخاري: فيه نظر، وكذبه أبو زرعة، وزافر فيه ضعف، وشبيب لين.
8- حديث: "أن العباس بنى قبة" الحديث رواه أبو داود مرسلا عن أبي العالية، والمراسيل من جملة الأحاديث الضعيفة.
9- حديث أنه صلى الله عليه وسلم (مر بقبة) الحديث هذا هو سبب الحديث الأول، وقد مضى الكلام عليه.
10- (إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع. . . إلخ) وهذا أثر، ولم نقف على من صححه .
وقال الحافظ ابن حجر في [الفتح] ، (11 / 92) ما نصه: " وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة بن عامر: "إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين" ، وفي سنده ضعف ، مع كونه موقوفا" . اهـ.
هذه الأحاديث وما جاء في معناها : منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما ليس بصحيح .
فما كان منها حجة فهو محمول على ذم من فعل ذلك للتباهي والإسراف والتبذير، فإن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة .
وقد ثبت في [صحيح مسلم] من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن علامات الساعة: وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان .
قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: والمراد أن أسافل الناس ، يصيرون رؤساءهم ، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه .
وذكر النووي هذا المعنى في [شرح صحيح مسلم] حينما تكلم على هذا الحديث.
أما إذا طال البنيان لغرض شرعي، كتوفير المرافق والمساكن للمحتاجين ، أو لاتخاذها سبيلا للكسب ، أو لكثرة من يعول ونحو ذلك :
فلا شيء في ذلك ، فيما يظهر لنا، فإن الأمور بمقاصدها، قال صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى . والحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/ 485).
وصحح الشيخ الألباني رحمه الله الحديث الأول والسادس، ووجه ذلك بقوله:
" واعلم أن المراد من هذا الحديث والذي قبله - والله أعلم - إنما هو صرف المسلم عن الاهتمام بالبناء وتشييده فوق حاجته .
وإن مما لا شكَّ فيه : أن الحاجة تختلف باختلاف عائلة الباني ، قلَّة وكثرة ، ومَن يكون مضيافاً ، ومن ليس كذلك ، فهو مِن هذه الحيثية يلتقي تماماً مع الحديث الصحيح " فراش للرجل ، وفراش لامرأته ، وفراش للضيف ، والرابع للشيطان " .
رواه مسلم ( 6 / 146 ) وغيره ، وهو مخرَّج في " صحيح أبي داود " .
ولذلك قال الحافظ بعد أن ساق حديث الترجمة وغيره :
" وهذا كله محمول على ما لا تمسّ الحاجة إليه مما لا بدَّ منه للتوطن ، وما يقي الحرَّ والبرد " .
ثم حكى عن بعضهم ما يوهم أنَّ في البناء كله الإثم ! فعقَّب عليه الحافظ بقوله :
" وليس كذلك ، بل فيه التفصيل ، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم .. فإن في بعض البناء ما يحصل به الأجر ، مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني ؛ فإنه يحصل للباني به الثواب ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم " . انتهى من " السلسلة الصحيحة " (6/ 802) حديث رقم 2831
ومن ذلك يتبين : أنه لا حرج في بناء الشقق ، وتأجيرها، أو في شراء الأراضي لحفظ المال ، أو لاستثماره ؛ بل هو مقصد حسن معتبر ؛ فإن الله تعالى نهى عن إضاعة المال .
وأن المحذور : هو بناء التباهي والإسراف والخيلاء.
والله أعلم.