ما تفسير جوابي الشرط في قصة سيدنا يونس في كل من سورة الصافات وسورة القلم، حيث جاء الشرط في الصافات" فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" وفي القلم" لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم"؟ .. السؤال بصيغة أخرى: ما العاقبة التي كانت لتحدث لولا أن تداركه الله بنعمة منه بأن ألهمه التسبيح، هل هي اللبث في بطن الحوت إلى الأبد أم النبذ مذمومًا؟! .. فهم جوابان يهيأ لي (ظاهرًا) أنهما متضادان .. وحاشا لله أرجو أن تفيدوني، وجزاكم الله خير الجزاء
الحمد لله.
أولًا:
ليس في القرآن تضاد بحمد الله تعالى، إذ القرآن تنزيل من حكيم حميد، والباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، والحمد لله أن عقد قلبك ولسانك على تنزيه القرآن عن التناقض والاضطراب ، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن ، يصون قلبه عن التشويش والاضطراب ، ولسانه عن نطق غير الصواب ، لا سيما في مثل هذا المقام ، وإن كان ذلك لا يمنعه من السؤال والتعلم .
ثانيًا:
أما كشف التعارض بين هذه الآيات، وهي قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ القلم/ 48 - 49، وقوله تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الصافات/ 143 - 144 .
1- فيتلخص في كون معناه في الآية الأولى (القلم): أن يكون جواب لولا محذوفًا دل عليه قوله (وهو مكظوم)، وإذا استحضرت أن الجملة الاسمية تفيد تمكن الكظم منه، فتلك الحالة لو استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، فيكون معنى الآية: لولا أن تداركه نعمة من ربه لبقي مكظومًا، أي: لبقي في بطن الحوت، وهو بذلك يتفق مع الآية الثانية في المعنى .
وفي تلك الحالة تجعل جملة ( لنبذ بالعراء وهو مذموم ) استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن الإجمال الحاصل من موقع لولا.
2- ومن الأوجه التي ذكرت في ذلك، أن يكون المعنى: لولا تسبيحه للبث في بطن الحوت، لكنه بسبب هذا التسبيح نبذ بالعراء ولم يبق في بطن الحوت، وحيث نبذ بتسبيحه فلولا نعمة ربه لنبذ بالعراء مذمومًا غير مشكور، لكن نعمة الله كانت سابغة فلم يذم.
انظر: التحرير والتنوير: (29/ 107)، وكشف المعاني، لابن جماعة: (309).
ويقول الطاهر في تقرير الجواب: " وأدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتًا فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مثلة للناظرين أو حيا منبوذا بالعراء لا يجد إسعافا، أو لنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذا خارقا للعادة.
وهذا المعنى طوي طيًا بديعًا وأشير إليه إشارة بليغة بجملة ( لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ).
وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة ( وهو مذموم ) في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب لولا، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء نبذا ذميما، أي: ولكن يونس نبذ بالعراء غير مذموم.
والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جوابا للشرط لأن لولا تقتضي امتناعًا لوجود، فلا يكون جوابها واقعًا فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نبذه بالعراء ".
ثم ذكر وجهًا آخر فقال: " ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب لولا محذوفا دل عليه قوله وهو مكظوم مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفا، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط بلولا لاحقا لجملة ( إذ نادى وهو مكظوم )، أي لبقي مكظوما، أي محبوسا في بطن الحوت أبدا، وهو معنى قوله في سورة الصافات [143- 144] ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون )، وتجعل جملة لنبذ بالعراء وهو مذموم استئنافا بيانيا ناشئا عن الإجمال الحاصل من موقع لولا.
واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز.
والمعنى: لقد نبذ بالعراء وهو مذموم. والمذموم: إما بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذم في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله في آية الصافات ( فالتقمه الحوت وهو مليم )، وإما بمعنى العيب وهو كونه عاريا جائعا فيكون في معنى قوله: ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم ) [الصافات: 145] فإن السقم عيب أيضا "، التحرير والتنوير: (29/ 107).
إذًا، فخلاصة الأمر:
أن الله تعالى أخبر أن يونس عليه السلام، لما ذهب مغاضبًا، وألقي في بطن الحوت، تداركته رحمة الله تعالى، لأنه كان من المسبحين، ولولا ذلك لبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، ولألقي في عرصات القيامة، وهو مذموم، ملام على صنيعه .
ثم أخبر الله تعالى أنه نبذ بالعراء، بعد أن تداركته رحمة الله، ولم يبق في بطن الحوت، وحينئذ فقد يتوهم أنه ألقي في العراء وهو مذموم، فأخبر الله بنفي المذمة عنه .
فقد نجاه الله من بطن الحوت، ثم نجاه من أن يلقى وهو مذموم .