الحمد لله.
أولا :
أهل السنة وسط بين أهل الفرق كما أن أهل الإسلام وسط بين الأمم ، ومن وسطية أهل السنة أنهم لا يكفرون أصحاب الكبائر ، ولا يحكمون عليهم بالخلود في النار ، بل يقولون أن من لقي الله بكل ذنب ، خلا الشرك : فأمره إلى الله إن شاء عذبه ثم أخرجه من النار إلى الجنة ، وإن شاء غفر له .
وهذا بخلاف قول الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ممن يحكمون على صاحب الكبيرة بالخلود في النار .
وقد وردت الأدلة المتواترة من القرآن والسنة مع إجماع أهل السنة على ذلك ، ومن ذلك قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ". النساء/48 .
وحديث عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:" بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ ". أخرجه البخاري (18) ، ومسلم (1709) .
قال النووي في "شرح مسلم" (2/41) :" حديث أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ :" مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " ، وَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَعْصُوا إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَمَنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعَاقَبْ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ " : فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ ، مع نظائرهما في الصحيح ، مع قوله اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يشاء " ، مَعَ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاتِلَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ غَيْرِ الشِّرْكِ لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ ، بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ نَاقِصُوا الْإِيمَانِ ، إِنْ تَابُوا سَقَطَتْ عُقُوبَتُهُمْ ، وَإِنْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِرِ : كَانُوا فِي الْمَشِيئَةِ؛ فإن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ أَوَّلًا، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ثُمَّ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ ". انتهى
ثانيا :
هناك بعض النصوص التي قد يُفهم منها البعض أنها تدل على خلود أصحاب الكبائر في النار ، وهذا فهم خاطئ ، نشأ عن عدم جمع النصوص الواردة في المسألة ، وعدم فهم لسان العرب الذي به فهم نصوص الشرع .
ومن هذه النصوص التي قد تُشكل : ما أورده السائل الكريم ، وهو حديث :
علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى ، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا ، فَجَمَعُوا ، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا ، فَأَوْقَدُوهَا ، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا ، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا ، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ:
لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ .
أخرجه البخاري (4340) ، ومسلم (1840)
وفي لفظ عند البخاري (7145) لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ .
وجواب هذا الإشكال كما يلي :
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (6/245) :" وقوله: " ما خرجوا منها إلى يوم القيامة ": تفسير احتمال قوله في غير هذه الرواية: " ما خرجوا منها " ، وزيادةِ: " أبداً " في بعضها ؛ إذ لا يخلد أحد بذنب على مذهب جماعة أهل السنة ". انتهى . وينظر : العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" لابن الوزير (9/68) .
وعلى ذلك يكون المقصود هنا طول فترة العذاب لا الخلود في جهنم أبدا، من غير خروج منها . قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (8/216) قال المهلب: وقوله في حديث على: ( لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا ) : فالأبد هاهنا يراد به أبد الدنيا ؛ لقوله تعالى:" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء/48 ، ومعلوم أن الذين هموا بدخول النار لم يكفروا بذلك فيجبَ عليهم التخليد أبد الآخرة ، ألا ترى قولهم:" إنما اتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار " فدل هذا أنه أراد صلى الله عليه وسلم : لو دخلوها لماتوا فيها ولم يخرجوا منها مدة الدنيا ، والله أعلم ". انتهى .
وقال ابن القيم في "حاشيته على سنن أبي داود" (7/208) :" وَقَوْله (أَبَدًا) : لَا يُعْطِي خُلُودهمْ فِي نَار جَهَنَّم ، فَإِنَّ الْإِخْبَار إِنَّمَا هُوَ عَنْ نَار الدُّنْيَا ، وَالْأَبَد كَثِيرًا مَا يُرَاد بِهِ أَبَد الدُّنْيَا ، قَالَ تَعَالَى فِي حَقّ الْيَهُود وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ الْكُفَّار أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْت فِي النَّار وَيَسْأَلُونَ رَبّهمْ أَنْ يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ ". انتهى
ثالثا :
وأما سؤال السائل الكريم عن الطاعة في المعصية ، فإن الطاعة لا تكون إلا في المعروف ، ومن أطاع أحدا في تحريم الحلال أو تحليل الحرام؛ فأحل ما حرم الله بإحلال البشر ، أو حرم ما أحل الله بتحريم البشر، وهو يعلم فرض الله في ذلك ، فتركه : فهذا من قبيل الشرك الأكبر .
وأما من أطاع غيره في المعصية لهوى في نفسه ، غير مستحل لذلك ، بل في نفسه أنها معصية ، وحمله على ذلك ضعف إيمانه فهذه معصية يجب عليه التوبة إلى الله منها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/97) :" فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، دَعْ جَلِيلَهُ .
وَهُوَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ .
وَشِرْكٌ فِي الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ .
وَشِرْكٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْقَبُولِ.
فَالْغَالِيَةُ مِنْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَضُلَّالِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعَامَّةِ : يُشْرِكُونَ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ تَارَةً ، وَبِنَوْعِ مِنْ عِبَادَتِهِ أُخْرَى ، وَبِهِمَا جَمِيعًا تَارَةً . وَمَنْ أَشْرَكَ هَذَا الشِّرْكَ أَشْرَكَ فِي الطَّاعَةِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَأَجْنَادِ الْمُلُوكِ وَأَتْبَاعِ الْقُضَاةِ وَالْعَامَّةِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَؤُلَاءِ : يُشْرِكُونَ شِرْكَ الطَّاعَةِ ، وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لَمَّا قَرَأَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ فَقَالَ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ}". انتهى .
وقال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (2/275) :" إنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ ، بِطَاعَةِ الْمُشْرِكِ مُشْرِكًا: إذَا أَطَاعَهُ فِي اعْتِقَادِهِ ، الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَإِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ ، وَعَقْدُهُ سَلِيمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ : فَهُوَ عَاصٍ ، فَافْهَمُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ". انتهى
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم (3431) ورقم (145466)
رابعا :
وأما الشرك الأصغر فصاحبه لا يخلد في النار باتفاق أهل السنة والجماعة ، وإن كان بينهم خلاف هل صاحبه داخل تحت المشيئة أم لابد أن يعذب عليه إلا أن يتوب منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري" (1/301) :" والشرك له شعب تُكَبِّره و تُنمِّيه ، كما أن الإيمان له شعب تكبره و تنميه .
وإذا كان كذلك ، فإذا تقابلت الدعوتان : فمن قيل إنه مشرك ، أولى بالوعيد ممن قيل فيه : إنه ينتقص الرسول .
فإن هذا إن كان مشركا الشرك الأكبر : كان مخلدا في النار ، وكان شرا من اليهود و النصارى .
وإن كان مشركا الشرك الأصغر : فهو أيضا مذموم ممقوت ، مستحق للذم و العقاب .
وقد يقال الشرك لا يغفر منه شيء ، لا أكبر ولا أصغر ، على مقتضى عموم القرآن ؛ وإن كان صاحب الشرك الأصغر يموت مسلما ، لكن شركه لا يغفر له ، بل يعاقب عليه ، وإن دخل بعد ذلك الجنة ". انتهى
وينظر جواب السؤال رقم (91763) ورقم (121553)
وأيضا للأهمية جواب السؤال رقم (188050).
والله أعلم .