الحمد لله.
أولا:
اتفق سلف الأمة على إثبات الصفات لله تعالى دون تأويل أو تشبيه، ولا يصح عن أحد منهم تأويل شيء من الصفات، وما روي في ذلك إما ألا يكون تأويلا، بل هو تفسير باللازم مع إثبات الصفة، أو أن الآية ليست من آيات الصفات، أو يكون تأويلا لكن لم يصح سنده إلى من نسب إليه.
وما ورد في السؤال لا يخرج عن ذلك .
وينظر: جواب السؤال رقم (145166) ورقم (219403) وفيهما إثبات ابن عباس رضي الله عنه لصفة العين، وللكرسي الذي هو موضع القدمين، وللمعية.
ثانيا:
قد ذكر السائل ستة أمور يُزعم أن عباس قال فيها بالتأويل، وقد أورد ذلك بعض الأشاعرة، وتولى أهل السنة كشف ذلك وبيانه، وقد كفانا الشيخ فيصل بن قزاز الجاسم مؤنة الرد، فأورد هذه الأمور المدعاة، وأجاب عنها، ونحن نضع جوابه بنصه فهو كاف واف.
قال حفظه الله في كتابه "الأشاعرة في ميزان أهل السنة" ص549:
" لما كانت دعوى الأشعريين في جواز تأويل الصفات، بل وتحتُّمه، عريضة، لم يكن بد من الاستدلال عليها من كلام السلف، فإن كلام المتأخرين إن لم يكن له أثارة من السلف الماضين، فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقد حاول المؤلفان جمع ما أمكن من أقوال الصحابة والسلف من التابعين وأتباعهم، ليستدلوا به على أن ثبوت تأويل الصفات عن السلف، فوقعا في أخطاء جسيمة، هي كالتالي:
الخطأ الأول: أنهما لم ينقلا عن السلف من الكتب المسندة في الآثار، وإنما نقلا من كتب المتأخرين، بلا إسناد، ولا عزو لمصادرها.
الخطأ الثاني: أنهما لم يتحققا من صحة وثبوت ما نسباه عن السلف، واكتفيا بالدعاوى المجردة.
الخطأ الثالث: أنهما ينقلان ما يوافق هواهما من كلام بعض السلف، من غير أن يجمعا كل كلامه في المسألة ليتبين معنى كلامه ومراده. ومن المعلوم أنه لا بد من جمع كلام الإمام ، أو الصاحب ، في الباب ، حتى يمكن التحقق من رأيه، كما يفعله أتباع الأئمة الفقهاء من جمع كلام أئمتهم كله في كل باب.
الخطأ الرابع: أنهما ربما نقلا كلاماً لبعض السلف في غير موضعه، كأن ينقلا بعض كلامهم في غير آيات الصفات، أو في آية مختلف على كونها من آيات الصفات.
وهذه الأخطاء تفقد الباب قيمته، بل تجعله كلا شيء، وتبين بعد كاتبه عن أصول التحقيق والبحث العلمي...
وبالنظر إلى ما استدل به الأشعريان من كلام السلف مما زعما أنه يدل على صحة ورود التأويل عن السلف، يتبين أنه لا يخرج عن أحد أمرين:
الأول: عدم ثبوته عمن نقلا عنه، إما لكونه لا أصل له، أو لضعف سنده، أو لمعارضته لما هو أصح وأشهر من كلامه.
الثاني: أنه في غير موضعه، كأن يكون في غير آيات الصفات، أو مختلفاً فيه.
وقد سبق أن عقدنا فصلاً في إجماع السلف وإطباقهم على منع تأويل الصفات، ومعلوم قطعاً أن الذين حكوا إجماع السلف على ترك التأويل ممن نقلنا بعض كلامهم هم من أعلم الناس بالخلاف، ومن أعلمهم بالحديث والآثار، وبعضهم من كبار أئمة السلف كمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم، ويستحيل في العادة أن يحكي جميعهم الإجماع على ترك التأويل، ويكون ثابتاً عن السلف في نفس الأمر. بل هذا ضرب من المحال. وهذا رد إجمالاً.
أما تفصيلاً فأنا أذكر هنا جميع ما استدلا به من كلام السلف في التأويل المزعوم، ليتبين لنا بطلان ما ادعياه.
ومن الأهمية بمكان أن يلحظ القارئ فيما سيأتي، أن جميع ما استدلا به هو عين استدلالات الجهمية!!
دعاوى التأويل الوارد عن السلف :
أولاً: دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه للكرسي:
استدلا عليه بما رواه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "(وسع كرسيه) البقرة/255: كرسيه: علمه" اهـ.
وهذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه لأمور:
أولاً: أن مداره على جعفر بن أبي المغيرة، وفيه لين، فقد لخص الحافظ ابن حجر الحكم فيه فقال: (صدوق يهم) [تقريب التهذيب (ص201)]. ومثل هذا لا يُقبل تفرده بمثل هذا عند المحدثين، لا سيما عن المكثرين كسعيد بن جبير، ما لم يكن له به اختصاص، فإذا أضيف إلى ذلك مخالفته للثقات المكثرين من أصحاب سعيد بن جبير، فلا شك أنه يتعين الحكم بخطئه وشذوذه، كما هو الحال هنا، وتفصيله على النحو التالي:
ثانياً: أن جعفر بن أبي المغيرة قد خالف فيه من هو أوثق منه في سعيد بن جبير.
فقد رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره) اهـ. [رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 251) والدارمي في الرد على المريسي (1/ 412) وابن أبي حاتم في التفسير (2/ 491) وعبد الله في السنة (2/ 586) وابن خزيمة في التوحيد (ص107) وابن أبي شيبة في العرش (ص79) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 582) وابن منده في الرد على الجهمية (ص44) وابن بطة في الإبانة (3/ 337) والدارقطني في الصفات (ص111) والحاكم (2/ 310) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص474) وأبو ذر الهروي في الأربعين في التوحيد (ص57) والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 251). وأورده الذهبي في العلو (ص76) وقال الألباني في مختصر العلو (ص75): صحيح].
ومسلم البطين من أوثق الناس في سعيد بن جبير، وقد أخرج له البخاري ومسلم عنه.
وقال ابن منده عن جعفر بن أبي المغيرة: (ولم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير) اهـ. [الرد على الجهمية (ص45)].
ثالثاً: أن المحدثين والأئمة قد صححوا رواية القدمين، وضعفوا رواية المغيرة في "العلم":
- فقد صححها أبو زرعة، فقال فيما روى عنه ابن منده في التوحيد قال: (وسئل أبو زرعة عن حديث ابن عباس: موضع القدمين، فقال: صحيح) اهـ. [التوحيد (3/ 309)].
- وروى الدارقطني في الصفات بإسناده: عن العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: (شهدت زكريا بن عدي يسأل وكيعاً؟ فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث يعني: مثل الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا؟.
فقال وكيع: أدركنا إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعراً، يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئاً). اهـ. [رواه الدارقطني في الصفات (ص163) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص474) وهو في تاريخ ابن معين برواية الدوري (3/ 520)].
- وقال الدارمي في "الرد على المريسي": (فيقال لهذا المريسي: أما ما رويت عن ابن عباس فإنه من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر الأحمر ممن يعتمد على روايته، إذ قد خالفه الرواة الثقات المتقنون. وقد روى مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الكرسي خلاف ما ادعيت على ابن عباس. – ثم أسنده عن مسلم البطين به، ثم قال: فأقر المريسي بهذا الحديث وصححه.) اهـ. [الرد على المريسي (1/ 411)].
- وروى البيهقي الطريقين في "الأسماء والصفات" وقال: (وقال تبارك وتعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) البقرة255. وروينا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: علمه.
وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور المذكور مع العرش). اهـ. [الأسماء والصفات (ص497)].
- وقال الذهبي في العلو: (وقال ابن عباس: كرسيه: علمه. فهذا جاء من طريق جعفر الأحمر، لين، وقال ابن الأنباري: إنما يروى هذا بإسناد مطعون فيه). اهـ. [العلو (ص117)].
- وقال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: (والصحيح عن ابن عباس في الكرسي ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين –وذكره- ثم قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي يُروى عن ابن عباس في الكرسي، أنه العلم ؛ فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار) اهـ. [تهذيب اللغة للأزهري (10/ 54)].
رابعاً: أن تفسير الكرسي بموضع القدمين، هو الموافق لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأقاويل الصحابة رضي الله عنهم .
فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة).
[رواه ابن جرير (3/ 10) وابن أبي شيبة في العرش (ص77) وابن بطة في الإبانة (3/ 181) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 570،649) وابن حبان في صحيحه (1/ 287) وأبو نعيم في الحلية (1/ 166) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص510). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 174، رقم 109)].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والكرسي فوق الماء، والله تعالى فوق العرش، ولا يخفى عليه من أعمالكم شيء).
[رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص55) وابن خزيمة في التوحيد (ص105 - 106) والطبراني في الكبير (9/ 202) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 565، 689) وابن بطة في الإبانة (3/ 171) واللالكائي (3/ 395) وابن عبد البر في التمهيد (7/ 139) البيهقي في الأسماء والصفات (ص507). وأورده الذهبي في العلو (ص79) وعزاه لعبد الله بن الإمام أحمد في السنة وأبي بكر بن المنذر وأبي أحمد العسال وأبي عمر الطلمنكي، وقال: إسناده صحيح. وصححه الألباني في مختصر العلو (ص75)].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل).
[رواه ابن أبي شيبة في العرش (ص78) وعبد الله في السنة (1/ 302) وابن جرير (3/ 9) وأبي الشيخ في العظمة (2/ 627) وابن منده في الرد على الجهمية (ص46) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص509) وأورده الذهبي في العلو (ص107) وصححه الألباني في مختصر العلو].
والآثار في هذا الباب كثيرة.
وبهذا يتبين عدم صحة هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه وشذوذه، وخطأ من استدل به.
ثانياً:
دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه لمجيء الرب عز وجل:
زعم المؤلفان أن ابن عباس رضي الله عنه تأول مجيء الرب عز وجل، معتمدين على ما ذكره النسفي في تفسيره عند قوله تعالى: (وجاء ربك والملك) الفجر 22، ما نصه: (وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه) اهـ. ومثله ما نقلاه عن الحسن.
وليس لهذا أصل ولا إسناد، لا عن ابن عباس ولا عن الحسن البصري، ولا ذكره أحد من المصنفين من أهل الرواية.
ثالثاً:
دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه للفظ (الأعين):
زعم المؤلفان أن ابن عباس رضي الله عنه تأول العين لله تعالى، فقالا: (قال تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا) هود/37، قال ابن عباس رضي الله عنه : بمرأى منا).
والجواب أن يقال:
أولاً: أن هذا الأثر ليس بثابت عن ابن عباس رضي الله عنه ، فإن البغوي ذكره بغير إسناد، والثابت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله: (واصنع الفلك بأعيننا) هود37: بعين الله .
[رواه ابن أبي حاتم (6/ 2026) وابن جرير (12/ 34) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص396)].
وقال عطاء: عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل (تجري بأعيننا) القمر14، قال: أشار بيده إلى عينيه . [رواه اللالكائي (3/ 411)].
وهذا صريح منه في إثبات العينين لله تعالى.
وهذا هو المعروف عن السلف، فقد صح مثله عن أبي عمران الجوني، وقتادة، ومطرف، وخالد بن معدان، وأبو نهيك، وغيرهم.
ثانياً: أن هذا الأثر - على فرض ثبوته - ليس من التأويل في شيء، وإنما هو من التفسير باللازم، إذ إنه من المعلوم أن الله تبارك وتعالى يبصر ويرى ما يصنعه نوح عليه السلام، وما يكيده به قومه، فقال له مسلياً: إنك تحت نظرنا، وبمرأى منا، فلا تخف، وليس هذا من تأويل العينين في شيء، ولا من صرف اللفظ عن ظاهره.
إنما يصح التأويل الذي يزعمانه إذا لم يُثْبتْ لله تعالى عينا.
ومعلوم لكل عاقل أن نوحاً عليه السلام لم يكن في نفس عين الله تعالى، فذات الله ليست محلاً للمخلوقات، تعالى الله عن ذلك، وإنما المراد الحفظ والكلاءة.
بل ثبوت اللازم فرع عن ثبوت الملزوم. كما لو قال قائل في قوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى) طه46، أي: أنتما في حفظي ورعايتي، لكان صحيحاً، وليس هذا تأويلا للرؤية أو السماع، بل هو إثبات لهما لثبوت لازمهما.
قال الدارمي في رده على المريسي: (وأما تفسيرك عن ابن عباس في قوله: (فإنك بأعيننا) الطور 48، أنه قال: بحفظنا وكلاءتنا، فإن صح عن ابن عباس في قوله: (فإنك بأعيننا) الطور 48، أنه قال: بحفظنا وكلاءتنا، فإن صح قولك عن ابن عباس فمعناه الذي ادعيناه، لا ما ادعيت أنت، يقول: بحفظنا وكلاءتنا بأعيننا، لأنه لا يجوز في كلام العرب أن يوصف أحد بكلائة ، إلا وذلك الكالئ من ذوي الأعين، فإن جهلتَ ، فسمِّ شيئاً من غير ذوي الأعين يوصف بالكلاءة. وإنما أصل الكلاءة من أجل النظر، وقد يكون الرجل كالئاً من غير النظر، ولكنه لا يخلو أن يكون من ذوي الأعين، وكذلك معنى قولك: عين الله، فافهم) اهـ. [الرد على المريسي (2/ 831)] .
...
وقد نقل أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين، والإبانة، إجماع أهل السنة على إثبات العينين لله تعالى، كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني من الباب الخامس.
رابعاً:
دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه للفظ (الأيد):
زعم المؤلفان أن ابن عباس رضي الله عنه تأول اليد لله تعالى، فقالا: (قال تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) الذاريات47، قال رضي الله عنه: بقوة وقدرة. (القرطبي) اهـ.
والجواب: أن لفظ "الأيد" هنا ليس جمع اليد، بل أصله "أيد" .
قال ابن منظور في اللسان باب "أيد": (أيد: الأَيْدُ، والآدُ ، جميعاً: القوة ... وفـي خطبة علـي كرم الله وجهه: وأَمسكها من أَن تـمور بأَيدِه ، أَي بقوّته، وقوله عز وجل: (واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد) ص/17، أَي: ذا القوة.... وقد أَيَّدَه علـى الأَمر. أَبو زيد: آد يَئِيد أَيْداً ، إِذا اشتد وقوي. والتأْيـيد: مصدر أَيَّدته ، أَي قوّيته، قال الله تعالـى: (إِذ أَيدتك بروح القدس) المائدة110، وقرىء: (إِذ آيَدْتُك) أَي قوّيتك) اهـ. [لسان العرب / مادة "أيد"].
وقال صاحب مختار الصحاح في باب "يدي": (وقال الله تعالى: (والسماء بنيناها بأَيْدٍ) الذاريات47، قلت: قوله تعالى (بِأَيْد) أي: بقوة، وهو مصدر آد يئيد ، إذا قوي، وليس جمعاً ليد ليذكر هنا، بل موضعه باب الدال . وقد نص الأزهري على هذه الآية في الأيد بمعنى المصدر، ولا أعرف أحداً من أئمة اللغة أو التفسير ذهب إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنها جمع يد) اهـ. [مختار الصحاح / باب "يدي"].
وقد أجاب عن استدلالهما هذا إمامهم أبو الحسن الأشعري حيث قال في "الإبانة" في رده على الجهمية والمعتزلة الذين تأولوا صفة اليد لله تعالى:
(مسألة: وقد اعتل معتل بقول الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) الذاريات47، قالوا: الأيد القوة، فوجب أن يكون معنى قوله تعالى: (بيدي) ص75، بقدرتي ؟
قيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه:
أحدها: أن "الأيد" ليس بجمع لليد؛ لأن جمع "يد" أيدي، وجمع "اليد" التي هي نعمة أيادي، وإنما قال تعالى: (لما خلقت بيدي) ص75، فبطل بذلك أن يكون معنى قوله: (بيدي) ص75، معنى قوله: (بنيناها بأيد)) اهـ. [الإبانة للأشعري (ص108)].
وقال ابن خزيمة في التوحيد: (وزعم بعض الجهمية: أن معنى قوله: خلق الله آدم بيديه أي بقوته، فزعم أن اليد هي القوة، وهذا من التبديل أيضا، وهو جهل بلغة العرب، والقوة إنما تسمى الأيد بلغة العرب، لا اليد، فمن لا يفرق بين اليد ، والأيد ؛ فهو إلى التعليم ، والتسليم إلى الكتاتيب : أحوج منه إلى الترؤس والمناظرة. ) ا.هـ. [التوحيد (ص87)]...
سادساً:
دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه لنصوص (الوجه):
زعم المؤلفان أن ابن عباس رضي الله عنه تأول صفة الوجه لله ، فقالا (234):
(قال تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن27، قال رضي الله عنه: الوجه عبارة عنه) ا.هـ.
فالجواب: أن هذا الذي ذكره القرطبي ليس له أصل عن ابن عباس رضي الله عنه.
والثابت عن ابن عباس رضي الله عنه إثبات الوجه لله تعالى ، فقد قال رضي الله عنه في قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس26: (الزيادة: النظر إلى وجه الله).
[اللالكائي (3/ 459) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص133)].
وقال رضي الله عنه في قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) القيامة23: (نظرت إلى خالقها).[رواه الآجري في الشريعة (ص270) وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن المنذر].
سابعاً:
دعوى تأويل ابن عباس رضي الله عنه للفظ (الساق).
زعم المؤلفان أن ابن عباس رضي الله عنه تأول صفة الساق لله تعالى.
فقالا (234): (قال تعالى: (يوم يكشف عن ساق) القلم42، قال رضي الله عنه: عن كرب شديد) اهـ.
والجواب أن يُقال:
أولاً: أن الصحابة متنازعون في هذه الآية، فابن عباس وطائفة يفسرون الآية بالشدة، وأبو سعيد وابن مسعود وطائفة يعدونها من الصفات، وليس هذا تنازعاً في إثبات الصفة، وإنما تنازع في كونها من آيات الصفات؟
ولا ريب أن ظاهر الآية لا يدل على أنها من الصفات، لأن الساق فيها جاءت نكرة في سياق الإثبات، لم يضفها سبحانه لنفسه، فلم يقل (ساقه)، فلما لم يعرّفها بالإضافة، لم تكن دالة على صفة لله، ولذلك لم يعدها ابن عباس من آيات الصفات.
والذين جعلوها من آيات الصفات، إنما عدوها للحديث الذي في الصحيحين، لا لظاهر الآية. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.
وعلى هذا فلا يصح أن يقال إن ابن عباس تأول الآية!
ثانياً: أن صفة الساق لله تعالى ثابتة في السنة:
فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً).
[رواه البخاري (4/ 1871) واللفظ له، ومسلم (183)] " . انتهى من "الأشاعرة في ميزان أهل السنة"، باختصار يسير .
وننصح بمراجعة هذا الكتاب، ففيه الرد المفصل على دعوى التأويل المنسوب إلى السلف، مع فوائد كثيرة جمة، وتجده على المكتبة الشاملة.
والله أعلم.