الحمد لله.
أولا :
يجوز للمتوضئ أن يفصل بين المضمضة والاستنشاق ، فيتمضمض بغرفة ، ويستنشق بغرفة أخرى .
والأفضل أن يجمع بينهما ، فيتمضمض ويستنشق من غرفة واحدة ، يجعل بعضها لفمه ، والبعض الآخر لأنفه ؛ لثبوت أحاديث الجمع بينهما ، وهي أقوى وأصح من أحاديث الفصل بينهما .
وينظر جواب السؤال (115745) .
ثانيا :
رُويت أحاديث تدل على فصل المضمضة عن الاستنشاق ، ولكنها ضعيفة ؛ لا تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الثابتة في الجمع بينهما .
ومن الأحاديث الواردة في الفصل : الحديث المذكور في السؤال ، وهو حديث غريب غير موجود في كتب السنة المشهورة ، ولذلك أنكره ابن الصلاح .
قال ابن حجر : " أنكره ابن الصَّلَاحِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْوَسِيطِ ، فَقَالَ : لَا يُعْرَفُ ، وَلَا يَثْبُتُ ، بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ ضِدَّهُ" .
لكن ابن حجر تعقّب ابن حجر نفي ابن الصلاح له ، بقوله :
" قُلْت: رَوَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ فِي صِحَاحِهِ مِنْ طَرِيق أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : شَهِدْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّآ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَأَفْرَدَا الْمَضْمَضَةَ مِنْ الِاسْتِنْشَاقِ ، ثُمَّ قَالَا : "هَكَذَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأ" .
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْفَصْلِ ، فَبَطَلَ إنْكَارُ ابْنُ الصَّلَاحِ" انتهى من "التلخيص الحبير" (1/134) .
وقد شكك الشيخ الألباني رحمه الله في صحة الحديث بهذا اللفظ ، لكونه مخالفا للألفاظ الواردة في الكتب المشهورة ، فقال بعد أن أورد كلام ابن حجر السابق :
" وجدته في " المختارة " (1/126) من طريق ابن ثوبان عن عبْدة بن أبي لُبابة عن شقيق عن عثمان وحده .
قلت: لكني أشك في ثبوت ذكر المضمضة والاستنشاق في هذا الحديث!
فقد أخرجه ابن ماجه (1/161) ، والطحاوي (1/17) من طريق ابن ثوبان عن عبدة بن أبي لبابة عن شقيق بن سلمة قال: "رأيت عثمان وعلياً يتوضآن ثلاثا ثلاثاً، ويقولان: هكذا كان وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" .
وإسناده حسن؛ وابن ثوبان: هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو حسن الحديث إذا لم يخالف.
وهو عند الحاكم والدارقطني والبيهقي من طريق أخرى عن شقيق بن سلمة عن عثمان وحده؛ بلفظ : "فمضمض واستنشق ثلاثاً..." الحديث، ليس فيه التفصيل المذكور عند أبي علي .
وأصله عند المصنف في الكتاب الآخر [يعني : صحيح أبي داود] (رقم 98) بإسناد حسن .
واللّه تعالى أعلم " انتهى من "ضعيف سنن أبي داود" (1/45) .
وقال أيضا : "وأما الفصل؛ فلم يثبت فيه حديث أصلاً" انتهى من "ضعيف أبي داود" (1/45) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
"وَكَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ، تَارَةً بِغَرْفَةٍ، وَتَارَةً بِغَرْفَتَيْنِ، وَتَارَةً بِثَلَاثٍ. وَكَانَ يَصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْغَرْفَةِ لِفَمِهِ وَنِصْفَهَا لِأَنْفِهِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْغَرْفَةِ إِلَّا هَذَا .
وَأَمَّا الْغَرْفَتَانِ وَالثَّلَاثُ فَيُمْكِنُ فِيهِمَا الْفَصْلُ وَالْوَصْلُ .
إِلَّا أَنَّ هَدْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ الْوَصْلَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا" ، وَفِي لَفْظٍ: "تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ" .
فَهَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ .
وَلَمْ يَجِئِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ الْبَتَّةَ .
لَكِنْ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ" .
وَلَكِنْ لَا يُرْوَى إِلَّا عَنْ طلحة عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَلَا يُعْرَفُ لِجَدِّهِ صُحْبَةٌ" انتهى من "زاد المعاد" (1/185) .
وقال النووي رحمه الله : "وأما الفصل : فلم يثبت فيه حديث أصلا ، وإنما جاء فيه حديث طلحة بن مصرف ، وهو ضعيف" انتهى من "المجموع شرح المهذب" (1/360) .
والقول بالفصل بينهما ، هو مذهب الإمامين أبي حنيفة ومالك .
وبسبب انتشار مذهب أبي حنيفة رحمه الله في بلادكم ، فقد طبع هذا الكتيب على مذهبه ، واتبع كاتبُه علماءَ المذهب الحنفي .
والقول بالجمع بينهما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد ، وذهب إليه بعض المالكية .
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (38/ 105)
"قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ الْفَصْل بَيْنَهُمَا ، بِأَنْ يَتِمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ، أَيْ أَنْ تَتِمَّ الْمَضْمَضَةُ بِثَلاَثِ وَالاِسْتِنْشَاقِ بِثَلاَثِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ مُسْتَحَبَّانِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا" انتهى .
وقال القرافي المالكي رحمه الله: "كيفية المضمضة والاستنشاق: أحدهما: يتمضمض ثلاثا ، بثلاث غرفات ، ويستنشق ثلاثا كذلك . وهو قول مالك رحمه الله تعالى .
والثاني ، لأصحابه : غرفة واحدة لهما" انتهى من الذخيرة للقرافي (1/ 276).
وهذا الخلاف إنما هو في الأفضل والأكمل ، وإلا ، فإنه إذا جمع بينهما ، أو فصل : فقد أتى بأصل السنة التي هي المضمضة والاستنشاق .
قال ابن قدامة رحمه الله :
"فإن شاء المتوضئ تمضمض واستنشق من ثلاث غرفات ، وإن شاء فعل ذلك ثلاثا بغرفة واحدة ؛ لما ذكرنا من الأحاديث .
وإن أفرد المضمضة بثلاث غرفات ، والاستنشاق بثلاث ، جاز ؛ لأن الكيفية في الغسل غير واجبة" انتهى من المغني (1/170) .
وقال النووي رحمه الله: "اتفق نص الشافعي والأصحاب : على أن سنتهما تحصل بالجمع والفصل ، وعلى أي وجه أوصل الماء إلى العضوين" انتهى من "المجموع شرح المهذب" (1/ 358).
وهذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي لا إنكار فيها على المخالف ، فكل مسلم يفعل ما يراه أقرب إلى السنة – إن كان من طلبة العلم- أو يقلد من يثق في دينه وعلمه من العلماء ، أو يتابع علماء بلده ومذهبه الذي نشأ عليه ، ولا حرج عليه في ذلك .
والخلاصة :
الأحاديث الصحيحة الصريحة تدل على أن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كان بغرفة واحدة للمضمضة والاستنشاق، فيستحب للمتوضئ الجمع بينهما .
فإن شاء أن يفصل بينهما فلا حرج عليه ؛ لأن الكيفية في غَسل العضو غير واجبة .
وأما ما ورد من أحاديث في الفصل فغير ثابتة .
والله أعلم.