الحمد لله.
أولًا:
لقد حرم الله تعالى الإضرار بالمرأة، وقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) [البقرة: 231]، فقد كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه فقال: (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) أي: بمخالفته أمر الله تعالى.
قال الإمام ابن كثير، في تفسير قوله تعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) :
" هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح " تفسير ابن كثير: (1/ 629).
وفي آية ناهية عن العضل، يقول سبحانه: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف) [النساء: 19].
وقال سبحانه: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون * فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون)[البقرة/229-230].
قال ابن كثير: " وقوله: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) أي: لا يحل لكم أن تُضاجروهن وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [النساء:19] .
فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها. فقد قال تعالى: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) [النساء:4] .
وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل ، وأبغضته ، ولم تقدر على معاشرته : فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) الآية"، تفسير ابن كثير: (1/ 613).
وقال الشيخ السعدي: " كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت.
فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها ، عضلها ، فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها .
وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي يكون يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال ، إلا حالتين: إذا رضيت ، واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله: (كَرْهًا) ، وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل.
ثم قال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) : وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها ، في ذلك الزمان والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال.
(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) أي: ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة.
وهذا كله مع الإمكان في الإمساك ، وعدم المحذور.
فإن كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم"، التفسير: (172).
فتبين بهذا أنه لا يجوز للرجل أن يعضل المرأة ، لكي يذهب ببعض مالها .
ثانيًا:
أما في الحالة الأخرى، فإن المرأة إن تنازلت عن شيء من حقها ، طوعا منها ، من غير إلجاء له ، ولا استكراه عليه ، خوفًا من الطلاق = فإن ذلك مشروع، للإبقاء على الزوجية بينها وبين زوجها .
يقول ابن قدامة: " وإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها، لرغبة عنها، إما لمرض بها، أو كبر، أو دمامة، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها ، تسترضيه بذلك؛ لقول الله تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) [النساء: 128]"، المغني: (7/ 319).
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: " اتفق الفقهاء على أنه يجوز لإحدى زوجات الرجل أن تتنازل عن قسمها، أو تهب حقها من القسم لزوجها ، أو لبعض ضرائرها ، أو لهن جميعا، وذلك برضا الزوج؛ لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه ، لأنها لا تملك إسقاط حقه في الاستمتاع بها، فإذا رضيت هي والزوج : جاز؛ لأن الحق في ذلك لهما ، لا يخرج عنهما .
فإن أبت الموهوبة قبول الهبة لم يكن لها ذلك لأن حق الزوج في الاستمتاع بها في كل وقت ثابت ، وإنما منعته المزاحمة بحق صاحبتها، فإن زالت المزاحمة بهبتها ، ثبت حقه في الاستمتاع بها ، وإن كرهت ؛ كما لو كانت منفردة .
وقد ثبت أن سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها وهبت يومها لعائشة رضي الله تعالى عنها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة " الموسوعة: (33/ 203).
فتبين مما سبق أن للزوجة أن تتنازل عن بعض حقها، وليس هذا من قبيل التعليق، لأن هذا لم يكن منه على وجه المضارة لها ، ولا هو علقها عن الطلاق ، وحرمها النكاح ؛ بل هي تنازلت عن بعض حقها ، برضاها، استصلاحا للعشرة بينهما ؛ وقد كان يمكنها أن تطلب الطلاق ، لو شاءت ؛ فانتقت شبهة "المعلقة" هنا .
الخلاصة
للزوجة أن تتنازل عن بعض حقها، وليس هذا من قبيل التعليق، لأنها تنازلت برضاها، وقد كان يمكنها أن تطلب الطلاق، ولا يجوز للرجل أن يعضل المرأة لكي يذهب ببعض مالها .
والله أعلم .