سبق أن سألتكم في الفتوى رقم : (278157) عن العمل بشهادة حصل فيها بعض الغش ، وحكم الراتب الذي بني على هذه الشهادة ، وأحلتموني إلى الفتوى رقم : (26123 ) للشيخ عبدالكريم الخضير، وقد راجعت كثيرا من الفتاوى في هذا الموضوع ، فوجدت بعض العلماء يقولون : بأنه يصح العمل بهذه الشهادة إذا تاب من الغش وكان متقنا لعمله ، نود منكم تبيين الأدلة والأصول الذي بني عليها معنى هذا القول (وهو أن الشهادة لم تفسد أو تبطل بسبب الغش).
الحمد لله.
الغش محرم في الامتحانات وغيرها؛ لقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) رواه مسلم (102).
وعلى من وقع في ذلك أن يتوب إلى الله تعالى.
ولا حرج عليه في العمل بهذه الشهادة ما دام يحسن عمله؛ لأن هذا هو القصد الأول والأعظم من اشتراط الشهادة في عمل من الأعمال : أن يتحقق في صاحبها الأهلية لهذا العمل المعين ، ولو بغلبة الظن .
مع أن كل من يطلب الشهادة ، أو يشترطها : يعلم أن بعضا ممن يحملها قد لا يكون متأهلا لعمله ، وقد يكون حصل له تجاوز في الحصول عليها ، ونحو ذلك ، مما هو معروف ومشهور ، لكن يكتفى بالشهادة قرينة على تأهله لهذا العمل ، ثم ينظر في قيامه الفعلي بذلك .
فإذا قام به على الوجه المطلوب منه ، ومن أمثاله : حصل المقصود من اشتراطها .
والتعنت في البحث فيما حصل في مسيرته للحصول على الشهادة ، وما قد حصل له من تجاوز أحيانا ، أو غش ، أو نحو ذلك : لا يخفى ما فيه من إشقاق على الناس ، وإعنات في تحصيل هذه القرينة المؤهلة للعمل – الشهادات - .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله : " رجل يعمل بشهادة علمية وقد غش في امتحانات هذه الشهادة ، وهو الآن يحسن هذا العمل بشهادة مرؤوسيه ، فما حكم راتبه هل هو حلال أم حرام ؟
فأجاب : " لا حرج إن شاء الله , عليه التوبة إلى الله مما جرى من الغش , وهو إذا كان قائماً بالعمل كما ينبغي فلا حرج عليه من جهة كسبه ؛ لكنه أخطأ في الغش السابق ، وعليه التوبة إلى الله من ذلك " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (19/31).
ويمكن أن يستدل لهذا بمراعاة الأكثر والغالب واغتفار الأقل، ولهذا يفرق بين من غش في الامتحانات، ومن أتى بشهادة مزورة.
فإذا كانت جهة العمل تشترط شهادة معينة، وقد حصل عليها مع غش في الامتحانات، فالشرط متحقق، ويغتفر ما وقع فيه من الإثم، بخلاف من لم يمتحن ، وأتى بشهادة مزورة ، فإنها لا تعتبر.
وينظر: جواب السؤال رقم : (93019) .
فإذا انضاف إلى قيامه بالعمل ، على الوجه الذي يطلب منه ، أو يقوم به هو ونظراؤه ؛ إذا انضاف إلى ذلك توبته مما قد حصل منه من تجاوز وغش ، قوي جانب الرخصة في ذلك ؛ لما علم من مقصد الشريعة العظيمة في إعانة التائب على توبته ، واغتفار ما حصل منه قبل ذلك . قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة/275
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه، فقد جعل الله له ما سلف.
ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فأمرهم بترك ما بقي، ولم يأمرهم بردِّ ما قبضوه، فدلَّ على أنه لهم مع قوله: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، والله يقبل التوبة عن عباده.
فإذا قيل: هذا مختص بالكافرين ؟
قيل: ليس في القرآن ما يدلُّ على ذلك، إنما قال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ، وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى ...
بل قد يقال: إن هذا يتناول مَن كان يعلم التحريم ، إذا جاءته موعظة من ربه فانتهى ؛ فإن الله يغفر لمن تاب بتوبته، فيكون ما مضى من الفعل : وجوده كعدمه، والآية تتناوله: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ .
ويدلُّ على ذلك قوله بعد هذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إلى قوله: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ.
والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر.." انتهى من "جامع المسائل" (1/271) ، وما بعدها .
والله أعلم.