حسب ما قرأت أن مراتب الدين هي : الإسلام ، الإيمان ، الإحسان ، وحسب ما قرأت أن الإيمان لا يكتمل إلا بحب الرسول أكثر من النفس . وسؤالي هو : إذا كان الإنسان يؤمن بأركان الإسلام الخمسة ، ويؤمن بالله ، ويؤمن بالملائكة ، ويؤمن باليوم الآخر ، ويؤمن بالكتب التي أنزلها الله ، ويحلل الحلال ، ويحرم الحرام ، لكن إذا كان هذا الإنسان يحب نفسه أكثر من الله والرسول ، فهل يكون كافراً ، ويخرج من دائرة الإسلام ، ويعذب في القبر والآخرة ؟ أم فقط يخرج من دائرة الإيمان ويكون مسلماً فقط أم ماذا ؟
الحمد لله.
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على كل مؤمن، وهي داخلة في شهادة أن محمدا رسول الله، وهذه المحبة لها أصل ، ولها كمال .
فأصلها متعلق بمرتبة الإسلام، فلا يصح إسلام من لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكمالها بأن تكون محبته فوق محبة النفس والولد والوالد، وهذا متعلق بمرتبة الإيمان، فلا يؤمن من لم يكن رسوله الله أحب إليه من هذه الأشياء وغيرها.
قال الله تعالى: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) التوبة/24 .
وروى البخاري (15) ، ومسلم (44) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
والإيمان لا ينفى إلا لترك واجب، لكن لا يكفر الإنسان بذلك، بل يزول عن مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإسلام.
وقد دل على عدم الكفر بذلك: ما روى البخاري (6632) عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ:" كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآنَ يَا عُمَرُ) " .
فلم يكفر عمر رضي الله عنه لما كانت محبته لنفسه أكثر محبته للرسول الله صلى الله عليه وسلم أو مساوية لها.
قال الخطابي رحمه الله: " حُبّ الإنسان نفسه : طَبْعٌ .
وحبه غيره اختيار : بتوسُّط الأسباب .
وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله لعُمر، حُبَّ الاختيار ؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطّباع وتغْييرها عمّا جُبلت عليه؛ يقول: لا تصدق في حُبي حتى تَفْدى في طاعتي، وتُوثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك" انتهى من "أعلام الحديث" (4/ 2282).
وقد فسر القاضي عياض المحبة بالتعظيم، وجعل تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على كل أحد ، شرطَ صحة للإيمان، وتعقبه القرطبي في شرح مسلم، وبين أن المراد بالمحبة ميل القلب، وليس التعظيم.
قال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" (1/ 140):
" قوله : ( لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) :
هذا الحديثُ - على إيجازِهِ - يتضمَّنُ ذكرَ أصنافِ المَحَبَّةِ ؛ فإنَّها ثلاثة :
محبَّةُ إجلالٍ وإعظام ؛ كمحبَّةِ الوالِدِ والعلماءِ والفضلاء.
ومحبَّة ُرحمةٍ وإشفاق ؛ كمحبَّة الولد.
ومحبَّةُ مشاكلةٍ واستحسان ؛ كمحبَّة غير مَنْ ذكرنا.
وإنَّ محبَّةَ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا بدَّ أن تكون راجحةً على ذلك كلِّه.
وإنَّما كان ذلك ؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى قد كمَّله على جميعِ جنسه ، وفضَّله على سائر نوعه ، بما جبله عليه مِنَ المحاسنِ الظاهرة والباطنة ، وبما فضَّله به مِنَ الأخلاقِ الحسنة والمناقبِ الجميلة ؛ فهو أكملُ مَنْ وَطِئَ الثَّرى ، وأفضلُ مَنْ رَكِبَ ومَشَى ، وأكرمُ مَنْ وافى القيامة ، وأعلاهُمْ منزلةً في دارِ الكرامة.
قال القاضي أبو الفضل [عياض] : فلا يصحُّ الإيمانُ إلاَّ بتحقيق إنافةِ قَدْرِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنزلتِهِ ، على كلِّ والدٍ وولد ، ومُحْسِنٍ ومُفْضِل ، ومن لم يعتقدْ هذا واعتقَدَ سواه ، فليس بمؤمنٍ.
قال الشيخ رحمه الله [القرطبي]: وظاهرُ هذا القول أنَّه صرَفَ محبَّةَ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اعتقادِ تعظيمِهِ وإجلاله ، ولا شكَّ في كُفْرِ مَنْ لا يعتقدُ ذلك.
غيرَ أنَّ تنزيلَ هذا الحديثِ على ذلك المعنى غيرُ صحيح ؛ لأنَّ اعتقادَ الأعظَمِيَّةِ ليس بالمحبَّةِ ، ولا الأحبِّيَّة ، ولا مستَلْزِمًا لها ؛ إذْ قد يجدُ الإنسانُ من نفسه إعظامَ أمرٍ أو شخصٍ ، ولا يجدُ محبَّته ، ولأنَّ عمر بن الخَطَّاب ـ رضى الله عنه ـ لَمَّا سمع قولَ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، قَال : يَا رَسُولَ اللهِ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي ، فَقَالَ : وَمِنْ نَفْسِكَ يَا عُمَرُ ، فَقَالَ : وَمِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ : الآْنَ يَا عُمَرُ .
وهذا كلُّه تصريحٌ بأنَّ هذه المحبَّةَ ليستْ باعتقاد تعظيم ، بل ميلٌ إلى المعتقَدِ تعظيمُهُ ، وتعلُّقُ القلبِ به .
فتأمَّلْ هذا الفرق ؛ فإنَّه صحيحٌ ، ومع ذلك فقد خَفِيَ على كثيرٍ من الناس.
وعلى هذا : فمعنى الحديث ، والله أعلم : أنَّ مَنْ لم يجدْ مِنْ نفسه ذلك الميلَ ، وأرجحيَّتَهُ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لم يَكْمُلْ إيمانُهُ.
على أنِّي أقولُ : إنَّ كلَّ مَنْ صدَّق بالنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وآمَنَ به إيمانًا صحيحًا ، لم يَخْلُ عن وِجْدَانِ شيء من تلك المحبَّة الراجحةِ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ غير أنّهم في ذلك متفاوتون :
فمنهم : مَنْ أخذ من تلك الأرجحيّةِ بالحظِّ الأوفى ؛ كما قد اتَّفَقَ لعمر ـ رضى الله عنه ـ حين قال : ومِنْ نَفْسِي ، ولهندٍ امرأةِ أبي سفيان حين قالتْ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَقَدْ كَانَ وَجْهُكَ أَبْغَضَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ ... الحديث ، وكما قال عمرو بن العاص : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ ؛ إِجْلاَلاً لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ ، مَا أَطَقْتُ ؛ لأَِنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ . ولا شَكَّ في أنَّ حظَّ أصحابِهِ من هذا المعنى أعظَمُ ؛ لأنَّ معرفتهم بقدره أعظم ؛ فالمحبَّةُ ثمرةُ المعرفة ، فتقوَى وتضعُفُ بِحَسَبها.
ومن المؤمنين : من يكونُ مستغرِقًا بالشهواتْ ، محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى في أكثرِ الأوقاتْ ؛ فهذا بأخسِّ الأحوال ، لكنَّه إذا ذُكِّرَ بالنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو بشيء من فضائله ، اهتاجَ لذكرِهِ ، واشتاقَ لرؤيته ، بحيثُ يُؤْثِرُ رؤيتَهُ ، بل رؤيةَ قبرِهِ ومواضعِ آثاره ، على أهلِهِ ومالِهِ وولدِهِ ، ووالده ، ونفسِهِ والناسِ أجمعين ، فيخطُرُ له هذا ، ويجدُهُ وِجْدانًا لا شَكَّ فيه ، غير أنَّه سريعُ الزوال والذَّهَاب ؛ لغلبة الشَّهَوَاتِ ، وتوالي الغَفَلاَت ؛ ويُخَافُ على مَنْ كان هذا حالُهُ ذَهَابُ أصلِ تلك المحبَّةْ ، حتى لا يوجَدَ منها حَبَّةْ ، فنسألُ اللهَ الكريم ، ربَّ العرش العظيم : أن يَمُنَّ علينا بدوامها وكمالِها ، وألاَّ يَحْجُبَنَا عنها" انتهى.
وحاصل هذا : أن تقديم المحبة، واجب، لا يزول الإيمان بزواله.
وقال ابن رجب رحمه الله: "محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصول الإيمان ، وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدم عليها شيئا من الأمور المحبوبة طبعا ، من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك...
فإن قدم المرء طاعة الرسول ، وامتثال أوامره على ذلك الداعي: كان دليلا على صحة محبته للرسول ، وتقديمها على كل شيء .
وإن قدم على طاعته ، وامتثال أوامره ، شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا: دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه.
وكذلك القول في تعارض محبة الله ، ومحبة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل.
هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات.
فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس : كان ذلك علامة كمال الإيمان ، وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض .
وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة : فهي درجة المقتصدين ، أصحاب اليمين ، الذين كملت محبتهم ، ولم يزيدوا عليها" انتهى من "فتح الباري" لابن رجب (1/ 48).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وفي الصحيحين - من حديث أنس - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا تعارضت المحبتان، فإن قدم ما يحبه الرسول : كان صادق الإيمان .
وإلا ؛ فهو ناقص الإيمان" انتهى من "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان" ص 59
فمن قدم محبة نفسه على محبة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ترك واجبا، وكان ناقص الإيمان.
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (2431) ، ورقم : (14250) .
والله أعلم.