هل يتعارض قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) مع قوله: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا).

27-01-2019

السؤال 289531

واجهت بعض الشبهات التي يقول أصحابها : إن هناك تناقضا في الدين في الآيات التالية ، وأرغب في معرفة الرد عليها ، وهي: قال تعالي: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) ، وفي موضع آخر قال تعالي: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) . وهناك نقطة أخرى في نفس السياق وهي في قوله تعالي: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تناقض آخر مع وجود الكفار الذين لم يسلموا .

ملخص الجواب:

لا تعارض بين الآيتين المذكورتين ، بل كلاهما في بيان أن الله جلت عظمته قد أوضح لعباده السبيل ، وتواترت عليهم حججه وبيِّناته ، فلا يحتاجون إلى إكراه على الدين والإسلام ، ولا ينفعهم الإكراه ، لو لم يدخل الإسلام في قلوبهم ، وتنشرح به صدورهم . ثم هم مع ذلك ، مؤمنهم وكافرهم : خاضعون لجلال الله ، لا يخرجون عن سلطانه فيهم ، وتدبيره لهم .

الجواب

الحمد لله.

أولا :

قال الله تعالى :   لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  البقرة/256

جاء في "التفسير الوسيط" ، في تفسير هذه الآية :

" المفردات:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ: لا إجبار، ولا قسر على الإيمان.

الرُّشْدُ: الصواب، أو الهدى، أو الحق.

الْغَيِّ: الخطأِ، أو الضلال، أو الباطل.

بِالَّطاغُوتِ: الشيطان، أو كل ذي طغيان، أو كل معبود سوى الله تعالى.

بِالْعُرْوَةِ الْوثْقى: العروة: ما يُتعلق به، كالمقبض. والوثقى، مؤَنث الأوثق، وهو الأَشد الأحكم.

لَا انفِصَامَ لَهَا: لا انقطاع لها.

..

ذكرت الآية السابقة صفات الله السامية، المقتضية لتفرده بالألوهية واستحقاق العبادة. ولم يعد - بعد ما جاء فيها - مجال للمكابرة أو الإنكار، أو إكراه أحد على الإيمان، لأن أدلتها القوية تدعو إليه، دون قسر أو إكراه، فلا يحتاج العاقل إلى الإكراه أو الإلزام، بل يختار الدين الحق من غير تردد .. ولذا قال تعالى عقبها: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ؛ أي لا ينبغي أن يحتاج عاقل إلى الإكراه على دين الإسلام، لوضوح أدلته، فعليه أن يتجه إليه باختياره.

ويجوز أن يكون النفي بمعنى النهي للمسلمين عن إكراه أحد على الدِّين ؛ ولذا قال تعالى: ... أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وقال تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ... ) ، وقال: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ... ، إلى غير ذلك من الآيات.

والمعنى: لا تكرهوا - معشر المسلمين - أحدا على الإسلام، لأن الحق فيه واضح بَيِّن، لا يحتاج إلى إكراه أحد عليه .

( قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) : تعليل للحكم السابق ، مقرون بكلمة التحقيق قَدْ، لتأكيد مضمونه؛ أي: قد تبين الرشد والحق في دين الإسلام، كما تبين الغي والضلال فيما عداه ؛ فلا حاجة للإكراه على الإسلام " . انتهى من "التفسير الوسيط" ، مجمع البحوث الإسلامية (1/434-435) .

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :

" يقول تعالى: لا إكراه في الدين أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاما." انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/682) .

وينظر : "محاسن التأويل" للقاسمي (2/193-194) .

وينظر ما سبق حول هذه الآيات ، وما يثار حولها من تساؤلات ، جواب السؤال رقم : (178756) ، ورقم : (221852) ورقم : (34770) ، ورقم : (165408) .

ثانيا :

قوله تعالى :  أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ  آل عمران/83 .

قال الشيخ السعدي رحمه الله :

" أي: أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله؟ لا يحسن هذا ولا يليق، لأنه لا أحسن دينا من دين الله .

وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها أي: الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم، وكرها وهم سائر الخلق، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق كلها، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل  " .

انتهى من "تفسير السعدي" (137).

وقد قيل في الآية أقوال أخرى . قال أبو حيان رحمه الله :

" وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تُخْرِجُ: أَسْلَمَ، فِيهَا عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى : الِاسْتِسْلَامِ، وَعَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَعَلَى الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ بِهَذَا كُلِّهِ " انتهى من "البحر المحيط" (3/247). 

وينظر : "تفسير الراغب" (2/685-688) ، "التحرير والتنوير" (3/301) .

والآية ، على ما قدمناه ، مثل قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) الرعد/15

قال الشيخ السعدي: " أي : جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض كلها خاضعة لربها، تسجد له .

طَوْعًا وَكَرْهًا : فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع اختيارا كالمؤمنين، والكره لمن يستكبر عن عبادة ربه، وحاله وفطرته تكذبه في ذلك، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ أي: ويسجد له ظلال المخلوقات أول النهار وآخره وسجود كل شيء بحسب حاله كما قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم

فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها كان هو الإله حقا المعبود المحمود حقا وإلهية غيره باطلة "  انتهى من "تفسير السعدي" (415) .

وإذا كان الأمر كذلك ، فلا تعارض بين الآيتين أصلا ، بل هما من المثاني ، المتشابهات المعاني؛ ففي الآية الأولى : بيان أن أدلة وحدانية الله في كونه ، وتفرده بخلق عباده ، وتدبيرهم ، وتصريف أمرهم ، واستحقاقه عليهم أن يعبدوه وحده لا شريك له أدلة ذلك كله واضحة ، باهرة ، تضطر العقول إلى الإيمان بها ، لو خليت وما تقتضيه ؛ فلا حاجة إلى إكراه الناس على الدخول في الدين ، ولا معنى له .

ثم بينت الآية الأخرى : أن وجود هذه المخلوقات ، واستسلامها لرب العالمين ، طوعا ممن أسلم منهم ، وكرها من الكفار الذين لا يقدرون على الخروج من سلطان الله ، ولا قضائه ، ولا قدره فذلك كله دليل على قدرته ، ووحدانيته ، واستحقاقه على عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له .

قال ابن كثير رحمه الله :

" يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله، الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله، وهو عبادته وحده لا شريك له، الذي له أسلم من في السماوات والأرض أي: استسلم له من فيهما طوعا وكرها، كما قال تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال [الرعد:15]، وقال تعالى: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون. ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون. يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [النحل: 48 -50] .

فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم، الذي لا يخالف ولا يمانع." انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/69) .

وأما وجود الكفار الذين لم يسلموا ، فليس هذا بالأمر الخفي ، حتى يعارض به قول أحد من العقلاء ، فضلا عن قول رب العالمين ، والقرآن مملوء بذكرهم ، وذمهم ، وبيان سوء حالهم ، ومنقلبهم ؛ وهل المعركة إلا معهم ، وجهاد الأنبياء إلا فيهم ؟!

ولكنهم أيضا "مسلمون" ، على ما تقدم ؛ أي : خاضعون لأمر الله ، وقدره ، وتدبيره وتصريفه ، لا يخرجون عن ملكه لهم ، وسلطانه عليهم ، وهم خاضعون لجلاله ، شاؤوا ، أم أبوا .

فليس في الآية مدح لهم بذلك ، ولا أنهم يثابون عليه ؛ بل فيها زيادة إقامة الحجة عليهم ، وتقريع لهم على ضلالهم وغيهم .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في هذه الآية ونظائرها الكثيرة في القرآن :

" فَلَمَّا كَانَ قَوْله : ( مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض ) ، عَاما ؛ تبين أَن الْجَمِيع مَمْلُوك لَهُ ، والمملوك لَا يكون ولدا .

وَتبين أَيْضا : أَن كلهم لَهُ قانتون ، مطيعون ، عَابِدُونَ ؛ وَالْعَابِد الْمُطِيع لَا يكون إِلَّا مَمْلُوكا ، لَا يكون ولدا ...

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَدعُوهُم إِلَى دين الْإِسْلَام ، وَيبين أَن كل مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض مُسلم لله ، إِمَّا طَوْعًا ، وَإِمَّا كرها ؛ وَإِذا كَانَ لَا بُد من أَحدهمَا ، فالإسلام لَهُ طَوْعًا هُوَ الَّذِي ينفع العَبْد ، فَلَا يجوز أَن يتَّخذ غير هَذَا الدَّين دينا .

فَإِنَّهُ ذكر هَذَا فِي تَقْرِير أَن كل دين سوى الْإِسْلَام بَاطِل ؛ فَقَالَ : ( أفغير دين الله يَبْغُونَ ) ،  وَذكر بعد ذَلِك مَا يصير بِهِ العَبْد مُسلما مُؤمنا ، فَقَالَ : ( قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا وَمَا أنزل على إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى والنبيون من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ * وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين ) [سُورَة آل عمرَان 84 - 85] ...

وَأما تَخْصِيص الْمُؤمنِينَ : فَهَذَا يكون إِذا مدحوا بذلك أَو ذكر جَزَاء الْآخِرَة وَلَيْسَ الْمَقْصُود هُنَا مدح الْمُؤمنِينَ بِطَاعَتِهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُود بَيَان قدرته وَملكه وخضوع كل شَيْء لَهُ وَأَنه مَعَ هَذَا وَهَذَا يمْتَنع أَن يكون لَهُ ولد مَعَ خضوع كل شَيْء لَهُ وقنوته لَهُ وَيُقَال فِي الرُّكُوع من التَّسْبِيح الْمَأْثُور فِيهِ سُبْحَانَ من تواضع كل شَيْء لعظمته سُبْحَانَ من ذل كل شَيْء لعزته سُبْحَانَ من استسلم كل شَيْء لقدرته " انتهى ، مختصرا من "جامع الرسائل" (1/23-24) .

والخلاصة :

أنه لا تعارض بين الآيتين المذكورتين ، بل كلاهما في بيان أن الله جلت عظمته قد أوضح لعباده السبيل ، وتواترت عليهم حججه وبيِّناته ، فلا يحتاجون إلى إكراه على الدين والإسلام ، ولا ينفعهم الإكراه ، لو لم يدخل الإسلام في قلوبهم ، وتنشرح به صدورهم .

ثم هم مع ذلك ، مؤمنهم وكافرهم : خاضعون لجلال الله ، لا يخرجون عن سلطانه فيهم ، وتدبيره لهم .

والله أعلم .

تفسير القرآن
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب